كيف صار فَخُّ الشبكة العنكبوتية أملاً؟

02 يونيو 2017
أنيلا قيوم آغا/ الباكستان
+ الخط -

يُعدُّ شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، في المجتمعات العربية، الثورة اللغوية الأحدث خلال العقديْن المنصرمَيْن في تاريخ لغة الضاد. وقد وضع الاستخدام الواسع لهذه الوسائل السجلَّ الفصيح أمام التحدّي الأكبر: إما الصمود في دائرة المكتوب، وثمنه الانقطاع عن الإحالة على الواقع والإقصاء من المحكي، وإما التآكل أمام طغيان الدارجة واستعمال الأحرف اللاتينية والأرقام في الكتابة، مع التضاؤل أمام عبارات الألسن الأجنبية.

وكان للصحافة، بوجهيها الكتابي والمرئي، قولٌ آخرُ حين اختارت الانخراط في توجُّه سياسي-ثقافي جديد سديد، تعبُر فيه حدودَ الأقطار، وتتجاوز القارات، في دعم، لا مُواربة فيه، لاعتماد الفصيح في ثنايا الشبكة ووسائط الإعلام، أداةَ نقلٍ لما يهزُّ الساحة العالمية من أزمات السياسة والاقتصاد، وما تفيض به رحاب الفكر العالمي من فلسفاتٍ ومناهجَ. ولقد تجسَّد هذا الخيار في انتداب خيرة صحافيّي الوطن العربي ومُثقفيه، تؤازرهم كوكبة من أهل الفكر واللسان، يعيشون في دول المَهجر، وقد صارت لهم منفًى أو مهجراً ووطناً. وإنها فذةٌ هذه الظاهرة التي تجمع الناطقين والمفكرين بنفس اللغة في مضمار الإنتاج الصحافي، فيه يتسابقون، دون توقُّف عند الجنسية أو الأصل، عدا متانة التكوين.

ويُطلق اللسان الفرنسي على هذه الظاهرة مُصطلح: Culture transfrontalière وترجمتُه الثقافة العابرة للحدود، المتعالية عليها. فقد أتاحت هذه الوسائط، ومَن وراءها مِن قادة الفكر والسياسة، هذه السانحة ودعموها موقفاً أخلاقياً، تكون فيه هوية الإعلامي، أيًّا كانت المؤسسة التي ينتمي إليها، تتحدّد بالجنس الصحافي أو الأدبي الذي ينثر فيه أوراقه وينشر، ويَنبُغُ فيها بكفاءاته أكثر من نبوغه بأصوله. فكيف صار "فَخُّ الشبكة العنكبوتية أملاً"؟

أول بوارق إرساء هذه الثقافة العابرة للحدود إسداء أجلِّ الخدمات للفُصحى، منذ التسعينيات حتى يوم الناس هذا، وهي حقبة حرجة من تاريخ هذه اللغة ومسارها في الزمن، بعد أن أبانت سياساتُ التعريب التي سلكتها حكومات ما بعد الاستقلال عن فشل عريض وهِنات متتابعة، هيكلاً وتصوّراً، وبعد أن استعرت ضراوة الإنكليزية والفرنسية بسبب نفوذهما في مناحي الحياة، تؤازرهما في التوغل آلة تكنولوجية-افتراضية عاتية (الإنترنت)، أتت على أخضر الفصاحة ويابسها. وأوشكت الدوارج المحلية أن تعلنَ فوزها واستقرارَها لغاتٍ وطنيةً، لها أنصارها وجمعياتها وحتى دعمُها الخارجي-الغربي، بالإضافة إلى مطالباتٍ بدسترة ألسن الأقليات أو المكوّنات المجتمعية مثل الكردية والأمازيغية والسريانية، واستخدامها بشكلٍ رسميٍّ. ولا جدَل في مشروعية هذه المطالبة ضمن المعارك اللغوية.

وفي زمن التصارع هذا - وما تزال سهامه باقية في الجسد اللغوي العربي - انبعثت في سائر البلاد قنواتٌ إعلامية وصحف عديدة تَفرض الفصحى معياراً أوحدَ في التحرير والتفكير، وانبجست في مقالاتها المتراكمة آلاف المُفردات المعاصرة والمصطلحات المستحدثة لكل المفاهيم والدلالات، كائناً ما كان الميدان المعرفي الذي تُحيل عليه، بدءاً من أسواق العُملة وتقلّباتها، مُروراً بحقول النفط وتموُّجاتها، وصولاً إلى عالم الموضة والأزياء وغراباتها، ونصائح الطب لعافية الأبدان وروائها. وهذه ثمرة ثانية.

وأما الثالثة، فتخفّف تراكيب اللغة العربية من أثقال البلاغة وإصْر التَّكلُّف فصارت قادرةً، بمعجمها المرن ونَحوها المنساب، على وصف ما يحدث في قريةٍ الحاضر المُعولَمة، وهي التي لا تني عن الحركة والهيجان، وتُمتِعُ الفصحى وتُقنعُ باقتدارها على تمثيل العالم بدقة عجيبةٍ، إن كان المقام مقامَ دقةٍ، وبأسلوبٍ خشبي فضفاض إن كان السياق للتورية والمجاملة.

ولا ريب أنَّ الذي أتاح هذه المرونة ويسَّر التوليد المعجمي هو تمازج النظام الاشتقاقي الذي يمكِّن من استحداث عشرات المفردات، بناءً على جذرٍ واحدٍ، مع الثراء الدلالي وتعددية المعنى التي تميّز متنَ العربية، ومن تمازج هذين المكوّنَيْن المحكومين بمنطقٍ صارمٍ، تيَسَّر استخدام الفصيح، الجاري على "أقيسة العرب"، دونما تكلفٍ. وللقارئ أن يجيل ذهنه في مشتقات مادة (ح. س. ب) وسيعجَب كيف تنقّلت من وعورة البداوة إلى لين الحداثة، تدلّ على أشياء عالمنا المعاصر، وتُتَداول في الاستخدام العفوي: ومنها تتالت مفردات "الحاسوب"، وفيه يُتابع "الحساب الجاري"، وعبر وَسائطه تنتقد "المحسوبية"، ويُتمرّن على "الحسابيّات"، دون تشديدات "المُحاسِب"، أو "حسابات" مسبقة...

وقد ساعد على هذا التداول العفوي استخدامُ الوسائل التقنية من معاجم إلكترونية، ومدققات لغوية وتساجيل صوتية، ترسخ مُوَلَّدات الاصطلاح وتُشيعها، وذلك بعد أن عمل مهندسو البرمجيات الحديثة على تطويع أدواتهم الإعلامية لرقمنة المتن اللغوي وتيسيره. وما كان لهذه الموارد الاصطلاحية والوسائل التوليدية أن تُسفرَ عن ثرائها لولا قرارات سياسية - ثقافية اتُّخِذت لفرض الفصيح معياراً للعمل الإخباري، ونَبذ ما عداه من السجلات الدارجة، بل والتشدّد في مراعاة حُقوقه حَدَّ الذهاب إلى ترجمة العاميات إليه، والسهر على وضع أكبر وأول مُعجَمٍ تاريخيٍّ له.

فلئن فرضت تكنولوجيا الاتصالات أدواتٍ ساهمت ظاهرياً في تفتيت الفصحى ودكّ معاقلها، بتكسير قواعد الإعراب وتشويه إملائها، حتى صارت الشبكة ساحة موات رسمها ومعجمها، فإنَّها (أي الفصحى) انتفضت، كطائر الفينيق، من غبار العاميات والهُجْنة، تغرِّد على دوحتها بما استحدثته من منساب الصور البيانية، ودقيق الاقتران بين الدوال والمدلولات.

فهذه الشبكة التي كانت، وما بالعهد من قدمٍ، تهدّد كيانها، صارت لها أمل انبعاثٍ، يشيعهُ المد الاصطلاحي الذي يغطّي سائر أوجه النشاط البشري، وتنتظم مفرداته في سيولة تركيبية لافتة، وجزالة أسلوب رائقة.

بل وغدت الشبكة العنكبوتية إحدى أكبر الحواضن للفصحى والوسطى بما تُوفِّره للطاقات الإعلامية وللمثقفين العرب من فرصٍ نفيسة، وعليهم أن يغتنموها ومعها حقُّهم في التفكير النقدي والتحرّر. إذ من أصدق التحدّيات الراهنة أن يضحى الفصيح قضية سياسية واختياراً ثقافياً تدافع عنه الدول والأنظمة، ومنه تستمد جزءاً من شرعيتها. فبعيداً عن الشعارات، صارت هياكل الدول ومَن ساندها من المثقفين والصحافيين يدافعون عن الفصحى التزاماً سياسياً، ولأجلها يعقدون الندوات، ولتنميتها تخصّص المبالغ الضخمة، في سعيٍ لا يربطها بالدين فحسب، ولا يجعلها مُكوّن الهوية الأوحد، بل ضمن رؤية نسقية تشمل رهانات السياسة وتطلعات المجتمع وتحديات المعرفة.

تظلُّ صورة المستقبل غائمة الملامح، وتتفاوت تقييمات المختصين بين التفاؤل المفرط والتشاؤم المُربك، وكلاهما ضروريٌّ لِيُغرد العرب على دوحة الضاد.


*كاتب وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس

المساهمون