كيف سقطت دولة المليون مخبر؟ (1)

15 ديسمبر 2015

صدام حسين.. لم تنقذه أجهزته الأمنية من مصيره

+ الخط -

مع أن كل من قرأ تاريخ الأنظمة التي قتلت السياسة، وجرّمت المعارضة، واعتمدت في إدارة شؤون بلادها على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، يدرك أن طريق الدولة البوليسية آخره لحن حزين، ويعرف أن إطلاق أيدي الأجهزة الأمنية من دون رقيب ولا حسيب، يجعل سقوط الأنظمة مدوياً ومؤلماً، إلا أن عبد الفتاح السيسي ورجال أجهزته يفضلون، بعناد طفولي، غبي، أن يجرّبوا اللعب بالنار، من دون أن يخافوا حتى على مصالحهم الشخصية، ويتعظوا بمصير حاكم العراق، صدام حسين، بدلا من أن يكتفوا بتحذير المصريين من مصير العراق، في حين يسيرون على خطى صدام الذي كانت طريقته في الحكم تجسيداً حياً لعبارة ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وتأكيداً على صحة عبارة وليد سيف: "إن الطغاة كانوا دائما شرط الغزاة". 

هذه المرة، لا يحدثنا عن دولة الأجهزة الأمنية الصدامية، مظلوم نجا من بطش سجونها، أو شريك فيها تاب إما حقاً أو اتقاء للعقاب والغضب الشعبي، بل تحدثنا عنها وثائق وسجلات الأجهزة الأمنية نفسها التي كانت موضوعاً لدراسة بعنوان (بعث صدام حسين: رؤية لنظام استبدادي)، قام بها الباحث جوزيف ساسون الأستاذ المشارك في مركز الدراسات العربية في جامعة جورج تاون، وترجمها رفعت السيد علي، وصدرت، أخيراً، عن منشورات الجمل، وحاول كاتبها في دراسة الوثائق أن يكتشف الطريقة التي مكّنت نظام صدام حسين من البقاء مسيطراً على البلاد فترة طويلة، حيث جمع بين استعمال أقسى ألوان التخويف والعنف ضد مواطنيه ومعارضيه، واستخدام نظام موازٍ من المنح والعطاء والمكافآت لمؤيديه، ويساعده على ذلك جهاز قمعي متعدد الأذرع، لا يغادر صغيرة، ولا كبيرة إلا أحصاها، أو هكذا كان يظن صدام. وللأسف لم تصبح هذه الوثائق متاحة إلا بعد سقوط الأجهزة الأمنية في يد المحتل الأميركي، ليتم السطو عليها ونقلها إلى بلاد المحتل الأميركي الذي واصل حلفاؤه إكمال مسيرة خراب العراق التي بدأها قبلهم صدام حسين، الذي وجد، للأسف، من يترحّم عليه من بسطاء الناس، من دون أن يفكر هؤلاء في أن كل ما يعانيه العراق هو من ثمار ما زرعه صدام وحزبه وأجهزته الأمنية التي انتقل بعض رجالها، الآن، إلى العمل في خدمة (داعش) كما تفيد تقارير موثقة، وتلك قصة أخرى، لا تنفصل في ظني، عن قصة دولة المليون مخبر التي بناها صدام حسين، فلم تسقط على رأسه وحده، بل أخذت الملايين "في الرجلين".    

أجهزة بعضها فوق بعض

على رأس شبكة الأمن المعقدة التي بناها صدام حسين طوال سنوات نفوذه، يقع جهاز الأمن العام، أقدم الأجهزة الأمنية العراقية عمراً، والذي قام صدام بـ "تطوير" مهامه، بعد توليه الرئاسة، ليجعله متخصصاً في مراقبة جماعات المعارضة الداخلية والطوائف الدينية والأقليات العرقية والأنشطة الاقتصادية غير القانونية. يليه جهاز الاستخبارات العسكرية العامة، والذي كان يراقب القدرات العسكرية للدول المجاورة، ويراقب ضباط الجيش لكشف أي اختراقات تحدث في صفوفهم، كما أضاف صدام إلى مهامه، بعد أن أعاد تنظيمه عام 1979، مراقبة المعارضين السياسيين الموجودين في الخارج، ومراقبة أنشطة الملحقين العسكريين الأجانب في العراق، وعلى الرغم من كونه جهازاً عسكرياً، إلا أنه كان يرفع تقاريره مباشرة إلى الرئيس، لا إلى وزير الدفاع. هناك أيضاً جهاز المخابرات العراقية، والذي تطور عن جهاز الأمن الداخلي لحزب البعث، وكان يتميز بأنه جهاز سياسي متخصص في مراقبة أعضاء حزب البعث، ومراقبة أنشطة الطلاب العراقيين في الخارج، والقيام بعمليات ضد أجهزة المخابرات الأجنبية. ولأن كل هذه الأجهزة كانت موجودة، قبل وصول صدام إلى الرئاسة، لم يرها كافية لتحقيق طموحاته الأمنية العريضة، حيث أنشأ بعد توليه الرئاسة جهاز الأمن الخاص، ليكون أقوى الأجهزة الاستخباراتية العراقية، ويرفع تقاريره مباشرة لصدام الذي أسند إدارته إلى حسين كامل المجيد زوج ابنته، كان الجهاز يتكون من 11 قسما ودائرة، بالإضافة إلى فرع علمي، يدير مختبرا لفحص الطعام المقدم لصدام.

بعد حرب الخليج الأولى وانتفاضة الجنوب الشهيرة، رأى صدام أنه يحتاج مزيداً من الأجهزة الأمنية، فأنشأ عام 1992 جهاز الأمن العسكري لإحكام الرقابة على الجيش، ومكافحة أي تمردات محتملة، ولأنه لم يعد يثق فقط في الاستخبارات العسكرية، فقد منح ذلك الجهاز  اختصاصاتها نفسها في مراقبة ضباط الجيش، وكشف المعارضين بينهم، ولأن صدام كان يدرك أن المدنيين لم يعودوا يمثلون أي خطر عليهم، بعد أن تكفلت أجهزته الأمنية بسحقهم، سمح لحزب البعث في عام 1998 بتشكيل جهاز استخبارات خاص، أطلق عليه اسم (شعبة الاستخبارات العسكرية)، على الرغم من أن حزب البعث نفسه كان يقوم بأنشطة استخباراتية، وعلى الرغم من أن عضوية حزب البعث كانت شرطاً للقبول في جهاز الأمن الخاص ذي السمعة الرهيبة، إلا أن صدام رأى أهمية أن يكون الحزب نفسه رقيباً على العسكريين، لإحكام السيطرة على الجيش تماما.

"دوائر القائد العظيم حماه الله"

حوّلت كل تلك الأجهزة العراق إلى ثكنة عسكرية، ومع ذلك، ظل صدّام يشعر بالخوف الذي أذاقه لشعبه. ولذلك، نزع مسؤولية حمايته من جهاز الأمن الخاص، ليكوّن مجموعة خاصة مكلفة بحمايته، عرفت باسم (قوات الحماية)، لتكون أقرب دائرة لصيقة به على الدوام، ولم يكتف بذلك، فمع الوقت، بدأت الأجهزة المسؤولة عن حمايته تتعدد، إلى درجة أنه أصبح هناك ثلاث دوائر مختلفة مسؤولة عن حمايته، يعمل بها ما يزيد عن 1700 فرد، من مجموع 5500 فرد يعملون في كل فروع جهاز الأمن الخاص، ما جعل تقريرا أمنيا يحذر من مخاطر تضارب تلك الأجهزة، فيتم البدء في تنظيم اختصاصات تلك الدوائر، ويسند لبعضها مهمة مراقبة ولاء الضباط الذين يقومون بحماية الرئيس، ويتخصص بعض آخر في مراقبة ولاء القادة العسكريين للحرس الجمهوري، ويتابع فرع الأمن الخاص العاملين في جهاز الأمن الخاص، ما عدا من يعمل منهم مباشرة مع الرئيس، وكما يخبرنا جوزيف ساسون، فإن هذا التداخل بين صلاحيات هذه الدوائر لم يحدث مصادفة، بل كان متعمدا، لكي يراقب كل فرد الآخرين، كما يراقبه الآخرون، في حين أسندت مهمة التنسيق بين كل تلك الأجهزة، إلى مجلس الأمن القومي، وبالطبع، كانت تلك الأجهزة الوحيدة من بين مؤسسات الدولة العراقية التي لم تتأثر بأي أزمات اقتصادية، حتى في ظل فترة الحصار الاقتصادي الخانق، لأن صدام كان يظن أن هذه الأجهزة هي طريقه للبقاء في الحكم، حتى يتوفاه الله، فيرثه، من بعده، ابناه قصي وعدي وذريتهما إلى يوم الدين.

وفي حين كان صدام يدلي بمئات الأحاديث والتصريحات عن محبة شعبه له وثقته فيه والتصاقه به، كانت جحافل العاملين في أجهزته الأمنية، تتعامل مع كل فرد من أفراد الشعب بوصفه قاتلاً محتملاً، يمكن أن يعتدي على الأخ القائد الرئيس. لذلك، كان يتم إنفاق مبالغ خرافية على تأمين زياراته وجولاته، وإعداد كل الأطعمة والأشربة التي قد يتناولها في زيارته، ثم يتم بعدها تحليل عينات منها في معامل جهاز الأمن الخاص المجهزة بأحدث التقنيات المستوردة، ليتم بعد ذلك الحفاظ عليها تحت حراسة مشددة، إلى أن يتناولها الرئيس، أو يصرف النظر عنها، في الوقت الذي كانت تقوم فيه تلك الأجهزة بفحص مستمر على مدار اليوم لأي فرد قريب من أسرة الرئيس، بدءاً من العاملين في قوارب عدي ويخوته، وصولا إلى مدرسي وعمال الحضانة التي التحق بها أطفال قصي، ليتحول جهاز الأمن إلى جهاز لتأمين عائلة الرئيس الكبيرة العدد، ليتعود أفراد الأسرة، مع الوقت، على طلب أي معلومات أمنية عن أي شخص، يقرّرون وضعه تحت المجهر، أياً كانت تلك المعلومات شخصية، ولا علاقة لها بحماية أمن الوطن.

في مذكرة صادرة بتاريخ 12 يناير/كانون الأول 1994 من (القسم الخاص) لفرع الأمن المنبثق عن جهاز الأمن الخاص، يشرح رئيس القسم مسؤولية قسمه لمرؤوسيه، منبها إياهم إلى أنهم سيتولون "مراقبة الدوائر اللصيقة للقائد العظيم حماه وباركه الله"، والتي تشمل الكهربائيين والجزارين والخياطين والسائقين والمصورين وغيرهم من العاملين في القصور الرئاسية، والذين تم تركيب أجهزة تسجيل خفية في بيوتهم، والتنصت على هواتفهم ومراقبتهم بشكل مباشر، بعد انصرافهم من العمل، والجمع الدائم للمعلومات حولهم وحول أسرهم والمحيطين بهم، وفي حين كانت البلاد تشكو من تبعات الحصار الاقتصادي الخانقة، التي كانت تثير تعاطف الملايين حول العالم، كان صدام حريصاً على أن يطلب من جهازه الخاص تأمين ومراقبة مجموعة خاصة من "المكوجية"، كانت تتولى كوي ملابسه على مدار اليوم، لكي لا يظهر ولو لحظة أمام أحد بملابس غير مكوية، ولأن هذه المجموعة كانت شديدة الالتصاق بالسيد القائد، كان ذلك يتطلب أيضا مراقبة لصيقة لها، لتأمين حياة "القائد حفظه الله".

 وبالطبع، كان على كل العاملين في قصور الرئاسة، ألا يكتفوا بكونهم هدفا للمراقبة، بل أن يشاركوا فيها بشكلٍ يثبت ولاءهم، حيث كان من شروط حصولهم على العمل، أن يوقعوا على إقرار بضرورة "إبلاغ جهاز الأمن الخاص بأي معلومات تتعلق بالرئيس، أو أي أحاديث سلبية يقولها زملاؤهم في مكان العمل". ـ أنصح، هنا، بقراءة رواية بديعة، كتبها الروائي العراقي محسن الرملي، تدور في هذه الأجواء العبثية المأساوية، عنوانها (حدائق الرئيس) صدرت عن الدار العربية للعلوم.

القائد العام وزوجة الطاهي

من المضحكات المبكيات التي تكشفها الوثائق، ما تشير إليه مذكرة أمنية لفرع الأمن، صدرت بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول 1995، تتحدث عن مشكلة تواجه المسؤولين عن تأمين الرئيس، هي أن أغلب العاملين في القصور الرئاسية، كانوا من المسيحيين الذين كانوا يتحدثون إلى بعضهم ومع عائلاتهم بالآشورية والكلدانية، ربما لأنهم يعلمون أنهم مراقبون من الأمن، ولذلك كما تقول المذكرة، "كان من الصعب على جهاز الأمن الخاص مراقبة مكالماتهم الهاتفية، أو فهم أي حديث يستمعون إليه عبر أجهزة التنصت المزروعة في هواتف بيوت أولئك العاملين، وفي حالات كثيرة يستغرق الأمر نحو ثلاثة أيام لفض شفرة تلك المحادثات وترجمتها، ما يعني التعرض لمخاطر شديدة، لو كانت تلك المحادثات تحيك مؤامرة"، ولذلك، تم تخصيص مزيد من المبالغ المالية لتوظف الأجهزة الأمنية مزيداً من الذين يجيدون التحدث بالآشورية والكلدانية، أقدم اللغات التي يتحدث بها مسيحيو شمال العراق. هنا، يحلل جوزيف ساسون اتجاه صدام للتوسع في تشغيل الأقليات العرقية في قصور الرئاسة، بأن أفرادها لا يمتلكون طموحاً سياسياً. لذلك يمثلون جماعة مثالية للتشغيل في القصور الرئاسية، فضلا عن تنظيمهم الشديد ودقتهم في الوقت، مذكراً بأن ستالين سبق صدام إلى ذلك، ومستشهداً بدراسة لبول جريجوري، تؤكد أن "ستالين كان يتوسع في تشغيل الأقليات في المراكز العليا اللصيقة به، لإدراكه أن الأقليات لا تشكل تهديداً على نظامه، بسبب عدم وجود ظهير شعبي قوي من خلفها".

وفي حين كان الشعب العراقي يعتقد أن قائده يصل الليل بالنهار، للعمل على مواجهة المؤامرات الكونية، كان صدام يهتم بنفسه بالتقارير الأمنية التي تراقب اللصيقين به، مهما كانت تفاهة مضمونها، خذ عندك، مثلاً، التقرير الذي اكتشف بعد مراقبة دقيقة، اشترك فيها مترجمون عن الكلدانية، أن زوجة الطباخ الرئيسي لصدام تدمن لعب القمار والمراهنات، وأنها خسرت ذات مساء 30 ألف دينار عراقي (حوالي 300 دولار أميركي وقتها)، وهو ما اعتبره جهاز الأمن الخاص "خطورة أمنية"، فأوصى باعتقال الطباخ وزوجته، لكن صدام، في واحدة من المرات القليلة التي يكتب فيها تعليقاً بخط يده على هامش المذكرات، كتب "ألا يجب عليكم أن تكونوا أكثر صبراً، وبدلا من الاكتفاء باعتقالهما، يجب أن تزرعوا واحداً من الجهاز ليلعب الورق في بيت الطباخ، فيمكن له أن يخبرنا عما دار والأمور التي يتحدثون عنها في تلك الليالي". وبعد أسبوع، كان على مكتب الرئيس تقرير يفيد بأن أحد أفراد جهاز الأمن الخاص أصبح، بالفعل، شريكا للزوجة في لعب الورق، وتأكد أنها لم تثر أية أحاديث تمس الأمن.

لا نعرف هل ظلت زوجة الطباخ محظوظة حتى النهاية، أم أنها انضمت، هي وزوجها، إلى زملاء لهم، أودت بهم أخطاؤهم إلى سجن خاص في جهاز الأمن العام، أقيم بأوامر مباشرة من صدام حسين، ليحبس فيه أعضاء جهاز الأمن الخاص المشكوك في عدم ولائهم. وحين اشتكى نائب مدير جهاز الأمن الخاص في مذكرة بتاريخ 13 إبريل/نيسان 1995، من أنه لا يتاح له ممارسة الضغط الكافي على المعتقلين بالسجن الخاص، لكي يعترفوا بجرائمهم المفترضة، سمح له رؤساؤه باستخدام وسائل أشد قسوة عند استجواب من يعتقلهم، ثم أتيحت، بعد ذلك، لرؤساء الأقسام سلطة حبس أي عامل في الجهاز أسبوعاً، إذا أحس المدير أنه لا يؤدي، أو لا تؤدي، العمل على الوجه الأمثل. ووصل الأمر إلى تدخل الرؤساء في أدق تفاصيل الحياة الخاصة لمرؤوسيهم. لذلك، تخبرنا مذكرة بأن أحد عمال القصور الرئاسية "أصبح خطراً أمنياً بعد أن انفصل عن زوجته، وبدأ يجلب النساء إلى شقته"، وحين تزوج أخوه من امرأة سورية، أصبح مصنفاً بوصفه "خطراً أجنبياً محتملا". في واقعة أخرى، وحين نقل أحد العاملين في جهاز الأمن الخاص إلى شمال العراق، وأقام علاقة غرامية مع امرأة كردية، أصيب قادته بانزعاج شديد وقلق من التداعيات الأمنية التي يمكن أن تترتب على تلك العلاقة، فقد كان من أكبر المحظورات أن يكون هناك أي ارتباط لأحد العاملين بأي كردي، أو بأيٍّ من أسرى الحرب السابقين، أو بأي ممن لهم علاقة بحركات سياسية، أو بعاملين سابقين بالجهاز، أو بأي ممن كانت لهم علاقة بانتفاضة عام 1991 التي أطلق عليها اسم "انتفاضة الغدر والخيانة".

اقتراح "المجرم المقبور"

طوال الوقت، كان نظام صدام يطنطن بحمايته قيم الدولة المدنية الحديثة التي تحارب موروثات الماضي الملكي، وقيم الرجعية العربية المتعفنة، لكن أجهزة صدام الأمنية كانت، كما تكشف الدراسة، تعتمد بوضوح على الطائفية والعشائرية في تشكيلها الداخلي، حتى أن تقريراً لجهاز الأمن الخاص بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين أول 1991، حمل عنوان (دائرة الشؤون الأمنية من وجهة نظر شخصية)، قال، صراحةً، إن نجاح عمليات الجهاز يرتكز على أن "أغلب العاملين فيه ينتمون لعدد محدود من العائلات والعشائر الموثوق بولائها"، وهو ما تتبعه جوزيف ساسون بالتحليل، ليثبت صحته، كاشفا عن أن الاعتماد على العائلات والعشائر ذات الصلة الوثيقة بالنظام، كان ضرورياً من أجل الحفاظ على السلطة، لكنه كان يصبح، أحياناً، خنجرا ذا حدين على تلك العائلات والعشائر، لأن صدام كان بمجرد أن يعتبر عشيرة معينة أقوى مما يجب، ويرى أنها باتت تشكل خطراً، كان يخلي نظامه من أي عضو ينتمي لها، ففي عام 1996، مثلاً، صدر أمر بفصل أي عضو في جهاز الأمن الخاص، ينتمي لعشيرة العاني، وتم وضع 18 عشر فرداً من الحرس الجمهوري الخاص، و71 فرداً من الحرس الجمهوري العادي، تحت المراقبة اللصيقة، لأنهم ينتمون لتلك العشيرة، ولا تخبرنا الوثائق شيئاً عن مصيرهم، لكنها تخبرنا بأن ذلك حدث فيما بعد أيضاً لعائلة الجنابي، لتتغير سياسة الأجهزة الأمنية فيما يتعلق بتوظيف أبناء العائلة الواحدة، حيث رصد تقرير أمني وجود 11 زوجا من الأشقاء، يعملون في دائرة الشؤون الأمنية، و21 زوجا من الأشقاء يعملون في فرع المركبات، وأربعة أزواج من الأشقاء يعملون في دائرة الاتصالات، ليتم بعد ذلك التقرير نقل أشقاء كثيرين خارج الأقسام التي يعمل فيها إخوتهم، أو يتم فصلهم نهائيا من جهاز الأمن الخاص.

وما تخبرنا به الوثائق، أيضا، أن جهاز الأمن الخاص لم يكن، أبداً، مكتفيا بمهمته القاضية بحماية الرئيس، بوصفه رمزاً "لصمود الدولة في مواجهة الإمبريالية العالمية والصهيونية اللعينة"، فقد امتدت تدخلات الجهاز إلى كل شيء في الدولة، بدءاً من تعيين الأطباء وأساتذة الجامعات وتخصيص ملكيات الأراضي ونزعها، والممارسات الدينية، والتنقيب عن الآثار، بل وحتى في تعريب المصطلحات اللاتينية. ولم يكتف الجهاز بمراقبة جميع مسؤولي الدولة من الدرجات كافة، وضباط الجيش في كل الأسلحة، بل وامتدت مهامه إلى مراقبة أفراد عائلات المسؤولين والضباط الذين تم إعدامهم، للتأكيد على قوة قبضة النظام، وتخويف كل من تسول له نفسه الثأر، وكان من بين هؤلاء، مثلاً، عائلة وزير الصحة العراقي، رياض إبراهيم حسين، الذي أعدمه صدام في يونيو/حزيران 1982، لأنه جرؤ على تحدي صدام حسين في أثناء الحرب مع إيران، واقترح عليه أن يتنحى عن السلطة، لإنقاذ البلاد من الدمار، وهو اقتراح كان يمكن أن ينقذ العراق وينقذ صدام وعائلته أيضاً، لكنه جلب للوزير المسكين حبل المشنقة، وجلب له أيضا لقب "المجرم المقبور"، وجلب لعائلته واقعاً مريراً، كان أبسط ما فيه تعرضهم لمراقبة أمنية لصيقة، استمرت حتى اللحظات الأخيرة في حياة دولة المليون مخبر.

نكمل في الغد بإذن الله.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.