كيف تصطاد مدينة؟

07 فبراير 2020
+ الخط -
أؤمن بالحبِّ من النَّظرةِ الأولى، ليسَ فقط مع البشرِ وإنما ينطبقُ على المُدن أيضًا.

هنالك مدنٌ تتورّطُ بعشقها من النَّظرة الأولى، تحسدُ ساكنيها، تغارُ من شرُفاتها، بيوتها، شوارعها التي لا تمرُّ بها گغريبٍ وإنما تظنُّ أنها تعرفك، تسلّم على الباعةِ وكأنك كنت تشتري منهم كلَّ يوم، وتصافحُ وردَها وكأنك غارسه. تُقبِّل وجهَ المدينةِ كأنك تتوضَّأ بنداهُ كلّ فجرٍ.

تتمنى لو قابلتها منذ زمن، وما كنتَ آخر الواصلين إليها، فكرتك عنها ليست مشوّهة كما قرأتها بعيون مَن ذاقوا الموت وركبوا البحار لبلوغها فكلما قارنوا رحلة الموت بصعوبة الحياة فيها وجدوها لا تستحق كل هذا العناء ومكثوا فيها لأنها الخيار الوحيد والأمان الأخير.
حقًا المقارنةُ ليست عادلةً فأنت ربحتها على طبقٍ من ذهب وهم ركبوها طبقًا عن طبق.

لن تجد السعادة فيها إلا حينما تتوقف عن مقارنتها بمدينةٍ أخرى، فالمُدن تشعر بالغَيرة إن قارنتها بغيرها.

أحبّها كما هي، تقبّلها بعيوبها، ابحث عن إيجابياتها لتجد إيجابياتك، انظر إليها بحبٍّ فقط بحب.

اعتبرها جائزة ترضيةٍ من الحياة لتبدأ من جديد بعد أن أُحيلت الأحلامُ في بلادك على التَّقاعد. 

كل من سافروا حاملين مدينةً في قلبهم متخذين منها قِبلةً لأحلامهم فشلوا في بناءِ أصغرِ حلمٍ على أرض اغترابهم. ربما الأمر ليس بتلك السهولة لكنها ضريبة النجاح، وما كانت تلك المدينة إلا أطلالاً يقفون عليها للتشكّي وجلد الذات.  

ظلّت تطرق على باب قلبهم بيدٍ من حنين مكبّلة أيديهم عن المباشرة في بناء أول أحلامهم أو لعلها آخرها. إلى أن أصبحوا أسرى مدينةٍ هي في الأساس أسيرة. 

إن كنتَ من هؤلاء يؤسفني إخبارك أن قصةَ الحبِّ بينكما لن تنجح، وربما تكون علاقة حبٍّ من طرفٍ واحدٍ طالما أنَّ طرف قلبك قد تورَّط مع مدينةٍ أخرى، فالمدنُ كالبشر تشعرُ بزوّارها وتعلم أنهم جاؤوها بنصف قلبٍ لذلك تعاقبهم كلما سنحت لها الفرصة بإقفال الباب الذي يفكّر أن يتواطأ معهم. 

خُذ بنصيحةِ قلبٍ مزّقته المدن أوعيونٍ أعمتها المقارنات حتى أوقفت قطار الحياة انتظارًا لقميص مدينةٍ أن يلقى عليها فيرتد البصر. 

 لذلك حاول أن تكون صديقها بعدما فشلت في التورّط معها بعلاقة حُب، لكن إياك أن تعاملها كمحطةٍ مؤقتة في حياتك.

أن تهدّدها بالرحيل حالما تنتهي شربة الماء التي تنوي شربها فيها، عندها ستكون أقسى مما تتوقع ستجعلك تكمل رحلتك المقدّرة في رِحابها بظمئك ولا ترتوي إلا من ملح مدامعك، تطوي أيامك بعناء خاشيًا أن يأتي اليوم الذي تجفُّ عروقك فيه وأنت ما زلت مجبرًا على المسير في طرقاتها التي ملّت خطاك وكأنها تعاتبك على مزاحمة عشّاقها.

لا تلقِ اللوم عليها فلا مدينة تحبّ من يحبُّ سواها، من يقارن صباحها بصباح مدينةٍ أخرى، من يُلمّع مساءها ليشبه مساء مدينته الحبيبة. 

من يستوطن فيها وقلبه مسافر إلى مدينة أخرى حتما ستدير لك ظهرها، ستُعرض عنك بفرصها، بحبها، وبكلِّ جميل تملكهُ. ستمضي حياتك فيها كعاشقٍ أحبَّ امرأةً وافترقا، وبقي يبحث عن وجه محبوبته في كلِّ الوجوه ولم يجده.

ستنفق العمر وأنت ترتّب صدفة تجمعكما ولن تنجح.

خلاصةُ القول: عوّد نفسك أن تحيا بأكثر من قلب اخفِ حبّك القديم تحت سابع نبض كذنبٍ لا يمكن البوحُ به إلا لله، واعطِ للمدينة الجديدة قلبًا كاملاً لتعطيك ما شئت. 

فالحربُ أخذت منا عمرًا والتنقُّلُ أخذ عمرًا آخرَ، كلُّ ما أخشاه أن ينفذَ رصيدُ أعمارنا بين ماضٍ من الزمان وحاضرٍ يبسَ عُودهُ من ماءِ عَودةٍ حُبِسَ في خوابي الانتظار، ولا نجد وقتًا لنفعلَ ما نحبُّ في المكان الذي نحب.

هكذا نكون قد أفنينا العمرَ بين البكاءِ على الوطن والحنين إليه

وما فعلنا لأجله شيئًا سوى أننا أهديناه دموعًا، لو بلغتهُ لباعَها على الأرصفةِ بالمجَّان لكثرتها على ترابه. 

أرِح خيالكَ ودَع تلك الصُّدفة للقدر يرتِّبها، و يهيّئ لكما الموعدَ المُشتهى ، وإلى ذاك الوقت افعل شيئًا يكتب اسمك بفخرٍ مزيّنا باسم مدينتك بدلاً من أن تجعل اسمها قيدًا يكبّلك وتصبح مغتربًا عاجزًا، يتنظر أن يعودَ إليها ولو حشوَ كفنٍ!

إن كنت تحبها لا تكن كذلك. 

avata
رفاه عثمان العياش
أكتب المقالات في عدة مواقع ولدي مجموعة خواطر باسم "بوح الياسمين" فيها عن ياسمينة اقتلعت من أرضها ورفضت أن تموت وتذبل فسقت روحها بحروف من حبر قلبها، ورواية "أنثى على قيد الحلم" كانت رسالة لكل أنثى علقت عمرها على حبال!

مدونات أخرى