كيف تتخلّّص الدولة الأفريقية من أمراضها؟

08 سبتمبر 2020
(منحوتة "كساء بيجو" للفنان الغاني إل أناتسوي، Getty)
+ الخط -

حاولت الأدبيات الأوروبية أن تقنع الأفارقة بأن أيّ تطوّر عاشته قارتهم أتى نتيجة غزوات الشعوب البيضاء لها. منذ نهاية الأربعينيات، سعى المؤرخ السنغالي شيخ أنتا ديوب (1923 – 1986)، إلى تفكيك جملة تحيّزات غربية ظلّت تمارس هيمنتها حتى بعد نيل جميع البلدان الأفريقية استقلالها، وهو توجّه فكري سيتدعّم لاحقاً ويوفّر عناصر في فهم مصير القارة.

في كتابه "الدولة المستحيلة في أفريقيا.. مسارات متناقضة"، الذي صدر عن "الآن ناشرون وموزعون" (2020)، ينطلق الباحث المصري حمدي عبد الرحمن حسن من عملية إدماج القارة السمراء في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بوصفه أساس تشكّل دولها المعاصرة.

تتمثّل الإشكالية الأساسية عند دراسة الواقع الأفريقي بأنه يقود إلى تحدي المفاهيم والنظريات السائدة في سياقات أخرى من العالم، بحسب الكتاب، الذي يستشهد برؤية المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي حول إشكالية دراستها بطريقة جديدة لا تُكرّر التحيزات نفسها "تحت ستار آخر".

ينطلق الكتاب من عملية إدماج أفريقيا في الرأسمالية العالمية بوصفه أساس تشكّل دولها المعاصرة

يذهب حسن في مقدّمته النظرية إلى تبني منظور تاريخي طويل الأمد، بمقدوره أن يفسّر لنا سبب استمرار التدافع الغربي على استغلال الموارد الأفريقية، كما لو كانت ملكاً طبيعياً له، ويتأتى ذلك بالاعتراف بوجود أوجه تشابه في جميع أنحاء القارة تعمل كعوامل دافعة نحو الوحدة في المجتمعات الأفريقية التقليدية الأصيلة خلال الفترة من القرن التاسع قبل الميلاد، أي قبل العصر المسيحي، وحتى عام 1500م.

وفق هذه المقاربة، يشير المؤلّف إلى بروز وتطوّر مجتمعات متباينة من حيث التقاليد والعادات والسياسات المتبعة، والتي تكيّفت مع تحديات العصر في مرحلة ما قبل الاستعمار، ثم ما لبثت أن انهارت وفقاً للسنن الكونية في قيام الدول وسقوطها، متتبعاً معظم النماذج التي ظهرت في هذا السياق.

غلاف الكتاب

من أبرز تلك النماذج، حالة كلّ من بوجندة في أوغندا التي أدّت تقاليد الحصاد الخاصة بزراعة الموز، ومعتقدات الدين، وأرواح الأجداد، إلى التأثير في عملية تشكيل ونشأة الدولة، وقيام البوتاكا (أرض العشيرة)، كوعاء جغرافي محدد لها، وكذلك بلاد الأشانتي في غانا التي جعل توافر الذهب فيها الحصولَ على العمالة أمراً ممكناً ما جعل السيطرة على الغابات متاحة بتحويلها إلى فضاءات زراعة.

يتناول الكتاب أنماط أنظمة الدولة قبل الاستعمار باستخدام معايير عدة، مثل درجة المركزية في حكمها، ونطاقها الإقليمي، موضّحاً أبرز ملامحها التي تتصل بوجود قادة تاريخيين، مثل إمبراطور مالي منسى موسى، الذي توثّق المصارد التاريخية رحلته لأداء الحج، والملكة أمينة التي حكمت زاريا واتسكت وعُرفت بالحكمة والشجاعة.

كما يجمع بين هذه الدول، بحسب حسن، دور التجارة والسيطرة على الطرق كعامل مهم في تشكيلها، واعتمادها على الغزو من أجل التوسّع، والأهمّ من ذلك كلّه مواجهتها الاستعمار الأوروبي والتصدي له خلال القرن السادس عشر، حيث أفشلوا دخول البرتغاليين، ليبدأ الغرب باستخدام وسائل أخرى للتدخل في السياسات الداخلية للدول الأفريقية حتى استطاع السيطرة عليها.

إن الأنظمة الأفريقية الحاكمة لدول ما قبل الاستعمار قامت على ديمقراطية اتفاق الرأي

وبالعودة إلى كثير من المنظّرين والمفكّرين الأفارقة، فإن الأنظمة الحاكمة لدول ما قبل الاستعمار قامت على ديمقراطية اتفاق الرأي، أو ما سُمّيّ "تقاليد اجتماعات الشجرة"، والتي اتخذت أسماء عديدة، مثل الكغوتلا وهو اجتماع عام أو محكمة عرفية في بوتسوانا، وكانت تصدر قراراتها عبر الحوار، والبونغي الذي يوجد في التقاليد البانتوية الجنوب أفريقية وتعني "حلقات التعلم"، وكانت تناقش جميع القضايا المتعلّقة بمصلحة الجماعة.

نسفت أوروبا كلّ هذه الهياكل السياسية والاجتماعية، التي تنطوي على مكوّن أخلاقي في كثير من الأحيان، بحسب الكتاب، وتم استبدالها بهياكل الدولة الاستعمارية والتي اعتمدت مبدأ السيادة بمفهومه الغربي المخالف لمعظم الثقافات الأفريقية، وتم إدماج الأفارقة ضمن الاقتصاد العالمي، لتصبح دولة الاستعمار مجرّد قشرة رقيقة تخفي ملامح كائن اجتماعي حيّ، يمارس حياته في العوالم الخفية للاقتصاد الرسمي والإطار السلطوي المصاحب له، ما جعل نضال الأفارقة صراعاً وجودياً من أجل البقاء.

تقاسم الأوروبيون القارة في مؤتمر برلين لعامي 1884 و1885، ولم تنج منه سوى إثيوبيا وليبيريا، ثم حرُمت ألمانيا من حصتها من القسمة باعتبارها دولة مهزومة بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). تمكنت الدول المستعمرة من تملّك الأراضي عبر القهر العسكري وعبر الرشوة والإقناع، وكانت على دراية مسبقة بأحوال مستعمراتها بفضل أنشطة المستكشفين والإرساليات التبشيرية.

بعد ذلك، بدأت الإدارة الاستعمارية في تطبيق سياسة استيعاب كاملة تشمل نشر التعليم والثقافة والسيطرة الكاملة على الاقتصاد واعتبار تلك المستعمرات جزءاً من البلد المركز كما في نموذج فرنسا، ما خلق فجوة هائلة بين الأفارقة المستوعبين وغير المستوعبين.

يتناول الكتاب عدّة إشكاليات تتصل بعلاقة الجيش بالسلطة وخصائص الدولة الانتقالية

ومارس الحكم البلجيكي توحشاً لا يوصف، حيث جرى تأسيس دولة "الكونغو الحرة" بوصفها إقطاعية شخصية للملك ليوبولد الثاني، بينما اعتمد البريطانيون أسلوب حكم غير مباشر لجأ إلى إدماج الملوك والزعامات القبلية طوعاً أو كرهاً مع الإبقاء على كثير من سلطاتهم التقليدية المتمثلة بجباية الضرائب وتوفير العمالة الرخيصة مقابل خضوعهم للسياسات الاستعمارية، في براغماتية واضحة سلكتها لندن التي اكتشفت أنها لن تستطيع حكم هذه الأراضي الممتدّة بلا مساعدة أعوان محليين، ولعب البرتغاليون بدورهم سياسة تمزج بين الأفكار الفرنسية والبريطانية.

يركّز الكتاب على أن الملامح العامة لدولة الاستعمار تمثّلت بكونها دولاً مصطنعة جرى تقسيمها وفق المصالح الأوروبية وبدون اعتبار لأية عوامل أخرى تهمّ الأفارقة أنفسهم، وكانت جميعها تابعة للرأسمالية حيث تعود الثروات لأصحاب المؤسسات الصناعية في المدن المتروبوليتانية الكبرى.

ستتعمّق الأزمة مع دولة ما بعد الاستعمار كما يشير إليها حسن، حيث ظهر نموذج عماده طبقة وسطى جديدة ورثت جهاز الدولة الاستعمارية ورأت بضرورة التعاون مع الغرب لقيام التنمية والتحديث، ونموذج أُعدّت طبقته الحاكمة من قبل الاستعمار والتي رفعت بعضها شعارات اشتراكية لبسط سيطرتها وإقصاء المعارضة، ونموذج طرحته برجوازية صغيرة أبدت استقلاليتها النسبية في البداية لعدم استقرارها كطبقة بمصالح واضحة.

ويلفت الكتاب إلى أن الدولة الأفريقية تنبع من ثلاثة عوامل أساسية: انفصالها عن سياقها التاريخي والحضاري فهي موروثة ومستوردة، ومنفصلة عن واقع وطموحات الكتلة العريضة من سكّانها فهي تعبّر عن مصالح فئات محدودة، ولا تستند إلى أساس أخلاقي سليم بسبب انفصالها عن تاريخ مجتمعها التقليدي، وبنائها على أصولها الاستعمارية، لتعكس الفلسفة نفسها والهيكل التنظيمي الذي اتصفت به عملية بناء الدولة في أفريقيا.

كما يتناول عدّة إشكاليات تتصل بعلاقة الجيش بالسلطة وخصائص الدولة الانتقالية في عدد من البلدان، وصيغ العائلية السياسية سواء في داخل الأنظمة أو في صفوف المعارضة كذلك، إضافة إلى تحوّلات "الشعبوية" وأزمة الحكم في أفريقيا منذ فكرة الزنوجة في تقاليد ليوبولد سنغور وغيمي سيزار، إلى مرحلة ما بعد الاستقلال التي قدّمها قادة مثل أحمد سيكوتوري وجوزيف موبوتو، وصولاً إلى الشعبوية الجديدة (الانتخابية)، كما في تجارب مايكل ساتا في زامبيا وعبد الله واد في السنغال، ورغم ادعاء هؤلاء الشعبويون عداءهم للسياسات النخبوية، إلا أنهم خلقوا في نهاية المطاف نخباً جديدة استفادت من تغيّر الحكم.

يطرح حسن في الختام تساؤلات حول كيفية التخلّص من أمراض الدولة الأفريقية؟ وكيف ستبدو في المستقبل المنظور، وكيف ستعمل من أجل اكتساب الشرعية ودعم علاقتها بالمجتمع المدني؟ وهل ستظلّ أسيرة ماضيها الاستعماري؟ معرّجاً على المشاكل المتعدّدة التي تواجهها القارة وتتطلّب مزيداً من البحث والاستقصاء، لينهي كتابه بمقولة فرانز فانون "يمكننا اليوم أن نفعل كل شيء طالما أننا لا نقلّد أوروبا، طالما أننا لسنا مهووسين بالرغبة في اللحاق بأوروبا... يجب أن نفتح صفحة جديدة، يجب أن نضع مفاهيم جديدة، ونحاول أن نُطلق الإنسان الجديد".

المساهمون