هل توجد حياة خارج الأرض؟ أم أننا وحدنا مميزون بالحياة على الأرض؟ تقول كلارا سوسا سلفا إنه صار بإمكاننا بفضل الأدوات المتاحة لدينا اليوم الإجابة عن هذه الأسئلة. كلارا سوسا سلفا هي واحدة من الباحثين الذين نشروا الإثنين الماضي، في دورية "نيتشر أسترونومي" Nature Astronomy، نتائج دراسة أثارت جلبة كبيرة في أوساط العلماء، إذ قال الباحثون إنهم رصدوا بواسطة تلسكوبين في هاواي والتشيلي غازاً قد يُشير إلى وجود حياة في طبقات غيوم كوكب الزهرة.
يعود بنا هذا العنوان إلى سؤال طرحه الفيزيائي الشهير كارل ساغان عام 1967، حين كتب مع هارولد موروفيتس مقالة نشرت في مجلة "نيتشر" Nature بعنوان "حياة في غيوم الزهرة؟". يقول إنه بالرغم من أن درجات الحرارة والضغط عاليان جدًا على سطح الزهرة، بما لا يسمح بوجود حياة فيه، سنجد أنها معتدلة أكثر في طبقات الغيوم على ارتفاع 50 كيلومتراً من السطح، حيث هي قريبة من درجات الحرارة والضغط على الأرض.
بناءً على معطيات عدة يثير ساغان وموروفيتس ما وصفاه بالـ "تكهنات" حول وجود مواد حية دقيقة في سحُب الزهرة، مسؤولة عن الأشكال المعتمة بسبب امتصاصها للأشعة فوق البنفسجية.
ظل هذا الاعتقاد حتى يومنا هذا مجرد تكهنات. لم تجد كلارا سوسا سلفا وزملاؤها في بحثهم أي كائنات حية مسؤولة عن امتصاص الأشعة فوق البنفسجية، لكنهم رصدوا مؤشرًا مختلفًا يمكن بمزيد من الدراسات اعتباره دليلًا على وجود حياة، والمؤشر هو وفرة غاز الفوسفين في غلاف الزهرة. المصدر الطبيعي الوحيد المسؤول عن إنتاج غاز الفوسفين على الأرض هو كائنات حية ميكروبية تعيش في بيئات خالية من الأوكسجين. يمكن أيضًا إنتاج الفوسفين صناعيًا بفعل الإنسان. يوجد الفوسفين على كوكب الأرض بتركيز ضئيل يقاس لكل تريليون.
المصدر الطبيعي الوحيد المسؤول عن إنتاج غاز الفوسفين على الأرض هو كائنات حية ميكروبية تعيش في بيئات خالية من الأوكسجين
الباحثون الذين رصدوا الفوسفين في الزهرة قالوا إنهم صمموا التجربة بحيث تقيس مدى تركيز الفوسفين في أجزاء لكل في غلاف الزهرة، وأن هدفهم من ذلك كان البدء عبر تحديد إطار مرجعي للقياس يمكنهم التطوير عليه في عمليات رصد مستقبلية، لكنهم فوجئوا بوجود كمية يمكن قياسها عند المعايير الأولية من التجربة. ووجدوا الفوسفين بتركيز يصل إلى 20 جزء لكل مليار، وهو تركيز غير ضئيل مقارنة بتركيز الفوسفين في الأرض.
بالتأكيد، هذا لا يكفي لاعتبار أن الفوسفين ناتج عن كيمياء بيولوجية تحدث في الميكروبات. قال الباحثون إنهم درسوا كل العمليات الجيولوجية المعروفة من برق وبراكين ونيازك، وتفاعلات كيميائية بديلة يمكن من خلالها إنتاج الفوسفين على الزهرة، ووجدوا أن هذه كلها لم تكن كافية لتفسير وفرة الغاز في سحاب الكوكب. ففي الكواكب الأرضية مثل الزهرة، لا توجد عمليات يمكن من خلالها إنتاج الفوسفين وحمله إلى الغلاف كما هو الحال في الكواكب الغازية، مثل المشتري وزحل. إضافة إلى ذلك، لا يمكن لعنصر الفسفور في الكواكب الأرضية إلا أن يكون مؤكسدًا. فلو كان غاز الفوسفين متوفرًا في جو كوكب الزهرة، فمن المفترض أنه لن يصمد طويلًا وسيتفاعل سريعًا مع الأوكسجين.
هنا، يستنتج العلماء أنه لا بد من وجود مصدر آخر في غلاف الزهرة يُنتج الفوسفين باستمرار وبسرعة، ليعوض عن تفاعله مع الأكسجين. قبل الجزم بأن الفوسفين ناتج بالفعل عن كائنات ميكروبية، سيتطلب الأمر مزيدًا من البحوث، خصوصًا أن معرفتنا عن الزهرة ليست كافية، وهذا ما لم تغفله الدراسة التي أشارت إلى احتمال وجود عمليات أخرى لا نعرفها قد تكون مسؤولة عن إنتاج الفوسفين على الزهرة.
يعود الفضل في جمع البيانات الأولى من سطح الزهرة إلى برنامج "فينيرا" الذي أطلقه الاتحاد السوفييتي
على مدار سنوات، كان المريخ مركز البحث عن الحياة في النظام الشمسي خارج الأرض. واستثمرت "ناسا" العديد من المركبات الفضائية لتصوير المريخ وجمع البيانات عنه. ففي حين أن الزهرة أقرب الكواكب إلى الأرض، إلا أن بيئة سطحه قاسية جدًا وتتسبب شدة حرارته وارتفاع الضغط عند سطحه في تدمير المركبات الفضائية التي ترسو عليه خلال وقت قصير.
يعود الفضل في جمع البيانات الأولى من سطح الزهرة إلى برنامج "فينيرا" الذي أطلقه الاتحاد السوفييتي في بداية الستينيات. ومركبات "فينيرا" هي الأولى التي دخلت الغلاف الجوي لكوكب آخر غير الأرض.
إذا ما تم أثبت أن الفوسفين ناتج بالفعل عن كائنات ميكروبية تكيّفت مع البيئة الحمضية القاسية في غلاف الزهرة، سيكون على العلماء التعامل مع أسئلة جديدة أكثر تعقيدًا حول مصدر هذه الكائنات: هل جاءت إلى الزهرة من الأرض؟ أم من المريخ؟ أم أنها بدأت على سطح الزهرة عندما كانت بيئته ملائمة للحياة؟ هل هي "بقايا" كائنات حيّة عاشت على سطح الكوكب قبل ملايين السنين؟
هناك دراسات تشير إلى أن بيئة سطح الزهرة كانت في الماضي معتدلة وملائمة للحياة، منها دراسة نشرها فريق مايكل واي وأنتوني ديلجينيو في عام 2016 مبنية على قياسات تبين أن سطح الزهرة احتوى على الماء السائل على مدار 3 مليارات سنة، وأصبح الكوكب غير قابل للحياة قبل 715 مليون سنة فقط. عندها يُعتقد أنّ نشاطات بركانية هائلة مدمرة أدّت إلى ما يُعرف بحادثة "إعادة تشكيل سطح الزهرة" بالكامل، لا يزال سببها غير معروف.
لا بد ألا نندفع بالحماسة ونتذكر أنه في الماضي كانت هناك دراسات أشارت إلى وجود كائنات حية دقيقة في الفضاء أثارت الكثير من الحماسة قبل أن يتم دحضها في ما بعد. ربما من أهمها إعلان "ناسا"، عام 1996، الكشف عن بقايا بكتيريا قديمة على نيزك مريخي صغير، وألقى الرئيس الأميركي آنذاك، بيل كلينتون، كلمة محتفيًا بالاكتشاف. إلا أن علماء آخرين بيّنوا فيما بعد أن الأدلة عن البكتيريا على نيزك المريخ لم تكن قطعية واعتُبرت ضعيفة.
يقول ساغان: "الفلكيون هم في النهاية بشر، وبغض النظر عن مدى شح البيانات المتوفرة لديهم لا يمكنهم مقاومة التخمين ووضع الفرضيات عن طبيعة الكواكب، وما أن تنكشف المزيد من البيانات تقل عدد الاحتمالات الممكنة، إلى أن يأتي اليوم الذي يتبقى فيه تفسير واحد فقط...". ما من شك أن البيانات عن سُحُب الزهرة ازدادت، إلا أننا لم نصل بعد إلى تفسير واحد فقط يجيب قطعًا عن السؤال الذي طرحه ساغان منذ أكثر من خمسين عاماً: هل من حياة في سحُب الزهرة؟