كوستا ـ غافراس يذهب إلى حيث يستحيل الذهاب

11 يونيو 2018
كوستا ـ غافراس (فيسبوك)
+ الخط -
اسمه مرتبطٌ بسينما سجالية تكافح من أجل فهم أفضل للعالم وأحواله. يسارية الوعي، لكنها إنسانية الالتزام. تكشف وتفضح وتؤرّخ لحظات وأحداثًا وشخصيات، وتحاول قولاً مختلفًا يجعل الصورة لغة أوضح وأجمل للبوح. تواجه الديكتاتوريات بحدّة. يصنعها سينمائيّ يرتكز على تربية إغريقية يونانية أصيلة، ويعتمد الفرنسية، لغةً وثقافةً وحضارةً وفكرًا، أداة عيش. 

في الـ85 من عمره، يُثابر كوستا ـ غافراس (كوستانتينوس غافراس) على تأكيد انشغاله بالسينما، رغم توقّفه عن الإخراج منذ عام 2012، مع "الرأسمال". احتفال فرنسي به حاليًا، بمناسبة صدور كتاب مذكّرات له بعنوان "اذهبْ إلى حيث يستحيل الذهاب" (منشورات "سوي"، باريس، 2018، 528 صفحة). بالإضافة إلى ذلك، صدور أفلامه الـ18 في علبتين اثنتين وبنسختين اثنتين ("بلو ـ راي" و"دي. في. دي") العام الفائت، يُتيح للمهتمّ إمكانية مشاهدة/ إعادة مشاهدة نتاجه السينمائي، وقراءة "روايته الرسمية" الخاصة بسيرته الذاتية.

أما عنوان الكتاب، فمستوحى من جملةٍ مكتوبة في "رسالة إلى غرّيكو، ذكريات حياتي" للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس (1883 ـ 1957): "اذهبْ إلى حيث لا ينتظرك أحدٌ، لا تتردّد في الذهاب إلى هناك". يقول السينمائيّ إنه يحبّ كثيرًا هذا "الصوغ اللغوي"، لأنه "تحريضٌ على الـ"يوتوبيا" التي آمن جيلي بها حينها". يُضيف أنه يحبّ كازانتزاكيس، لكن كتبه ممنوعة في اليونان، في تلك الفترة، "لاعتباره مقرّبًا من الشيوعية"، فيقرأها السينمائيّ في بلده الثاني.

يبدأ نص كوستا ـ غافراس من لحظة وصوله إلى باريس: الساعة 9،30 صباح 5 أكتوبر/ تشرين الأول 1955. هذا ليس تفصيلاً عابرًا. يؤكّد السينمائيّ أن اختياره بداية كهذه مردّه إلى شعوره العميق بأن وصوله إلى العاصمة الفرنسية "ولادة حقيقية" له. لكن ذلك غير مانعٍ له بالعودة إلى حياته اليونانية، الممتدة على نحو 20 عامًا، مُشيرًا إلى أنه ينتقل إلى هناك لسرد وقائع وحالات، بشكلٍ يُشبه تقنيات سينمائية مختلفة، كـ"فلاش باك" (العودة إلى الوراء) و"فلاش فوروارد" (الذهاب إلى الأمام). تقنية كهذه تمنحه مساحة أوسع للتنقّل بين الأزمنة والحكايات، وإنْ يُشدِّد على مسألة مهمّة: فرنسا تتيح له إنجاز أمور كثيرة غير حالمٍ بها في طفولته ومراهقته وشبابه: "كلّ ما تعلّمته وعرفته واكتسبته وعملته في السينما تمّ هنا في فرنسا"، يقول في حوار منشور في المجلة السينمائية الفرنسية "بوزيتيف" (مايو/ أيار 2018). يُضيف: "حتى عند تحقيقي أفلامًا في الولايات المتحدّة الأميركية، كنتُ أرافق معاونيّ الفرنسيين"، معتبرًا نفسه "الابن المتبنَّى للسينما الفرنسية".
 
يسرد كوستا ـ غافراس الكثير من سيرته، ومن لقائه "نجومًا وكبارًا" في هذا العالم، أمثال رومي شنايدر ومارلون براندو وجون فورد وغابرييل غارسيا ماركيز وياسر عرفات، وغيرهم. فلسطين حاضرةٌ في سيرته السينمائية: "هانا ك." (1983). فيلمٌ يروي بعض فصول الحياة اليومية في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، عبر حكاية فلسطينيّ تدافع عنه فرنسية عشيقة مدّعٍ عام إسرائيلي في القدس.



لكن الكتاب يذهب إلى مناحٍ كثيرة أخرى أيضًا: شبابه في بلدته اليونانية "آركاديا"، الشاهدة على ولادته في 10 فبراير/ شباط 1933، وهي مرحلة "من دون مستقبل"، تختلف عن بداياته الفرنسية المشغولة بدراسة الآداب الفرنسية في جامعة "السوربون"، قبل اكتشافه السينما بفضل "السينماتيك" وهنري لانغلوا.

كتاب مشوّق يُشبه، إلى حدّ كبير، سينما يصنعها بشغف، ويحلم بتحقيق فيلمٍ جديد له رغم تجاوزه الـ80. كتاب مليء بحكايات تنتقل من صناعة الفن السابع في فرنسا وهوليوود، إلى الاشتغال السياسي والصداقات: "كتاب يمنح الحياة لعائلة رائعة مكوّنة من "أفكارٍ" يكفي الاطّلاع على بعض أسماء المنخرطين فيها ـ إيف مونتان وسيمون سينيوريه وخورخي سمبرين وسلفادور الليندي وآرثر وليز لندن وكريس ماركر ورومان غاري وغيرهم ـ كي نتمكّن من فهم مسألة أساسية: كوستا ـ غافراس تغذّى من أحلام كبيرة في العصر الحالي، كما من معاركه الأعنف والأقسى"، كما في تعريف الناشر. أما الناقد السينمائي سامويل دووير، فلديه تأسّفٌ واحد: "كنّا نودّ أن يُخصِّص السينمائي الذي أصبح كاتبًا مساحة أكبر لأفلام ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته (مرحلته الكبرى)، ومساحة أصغر لأعماله الإخراجية الأخيرة، الأقلّ إقناعًا" (المجلة الثقافية الأسبوعية الفرنسية "تيليراما"، 8/ 5/ 2018).
المساهمون