كواليس الانهيار العقاري 2008 في "النقص الكبير"

11 يناير 2016
ممثلو فيلم "النقص الكبير"(Getty)
+ الخط -
لم تتغاضَ هوليوود يوماً عن مقاربة المواضيع الاقتصادية، كما عن المواضيع الأخرى كلّها، والفضائح التي تفوح من قلب عاصمة المال "وول ستريت". تدخل إلى كواليس "الألعاب الوحشية" هناك، وتكشف بعض فسادٍ مدوٍّ في أروقة الصناعة المالية هذه. أوليفر ستون ومارتن سكورسيزي يُعتبران من أبرز سينمائيي أميركا الذين يُفكّكون جوانب من الحياة اليومية لعاملين في "وول ستريت"، ولمُشاركين في انهيارات اقتصادية ومالية، ولمتضرّرين منها. هناك آخرون أيضاً، كالإيرانيّ الأميركي رامين بهراني ورائعته "99 منزلاً" (2014)، وآخرهم الأميركي آدم مكاي وفيلمه الصادم إيجابياً The Big Short (2015).
أسبابٌ عديدة تضع الفيلم الجديد لآدم مكاي (1968) The Big Short ـ تُرجم العنوان إلى العربية بـ "النقص الكبير"، لكن التعبيرَ الإنكليزيَّ اقتصاديٌّ ماليٌّ، لذا يُفضَّل الإبقاء عليه كما هو ـ في خانة أفضل أفلام نهاية العام 2015 وأجملها سينمائياً، بالإضافة إلى كونه أحد أجرأ الأعمال البصرية وأكثرها تحريضاً على متعة المُشاهدة، وعلى النفاذ عبر الصُوَر السينمائية المتينة الصُنعة إلى ما هو أعمق من مجرّد سرد حكائيّ لسِيَر شباب عاملين في شركات مصرفية ـ مالية، ودربهم إلى الثراء الفاحش في ظلّ الانهيار العقاري الاقتصادي في الولايات المتحدّة الأميركية، الحاصل في العام 2008.

براعة الصورة

أولاً: متانة الحبكة السينمائية، المستندة إلى سيناريو مكثّف وسريع الحركة، وإلى توليف يتلاءم ومفاصل السرد الحكائيّ بما يُخفِّف من حدّة المصطلحات العلمية المستخدمة في الحوار. وثانياً: استخدام حِسّ فكاهيّ يُساعد على تمرير مفاهيم ومفردات علمية بلغة مبسّطة وسلسة، ويمنح النصّ السينمائيّ متنفَّساً ينخرط في السياق الدرامي العام من دون نفور أو تصنّع أو مبالغة.

وثالثاً: أداء تمثيلي حرفيّ بديع لنجومٍ هوليووديين، بعضهم محسوبٌ على الكوميديا الصرفة (ستيف كاريل)، وبعضهم الآخر حاضرٌ في تلاوين أدائية مختلفة (كريستيان بايل وراين غوزلينغ وبراد بيت في الأدوار الرئيسية). ورابعاً: توغّله في كواليس أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية الحديثة في العالم، في مسار تصاعديّ يتدرّج بهدوءٍ ظاهرٍ، ممزوجٍ بغليان المادة الواقعية (وهو غليان مبطّن في ثنايا السرد البصري)، وعبر متتاليات سينمائية محكمة البناء الدرامي، ومتكاملة بين صرامة العلم الاقتصادي ـ المالي، وحيوية الصورة السينمائية المتحرّكة، وبراعة الأداء التمثيلي، وجماليات الحوارات والمعالجة والتقطيع.

وخامساً: تلاعب بصريّ يُعين على إيجادِ فُسحٍ بصرية هادئة ووافية، تحمل تفسيرات مباشرة لمفردات وتعابير اقتصادية ـ مالية، على ألسنة شخصيات لا علاقة لها البتّة بالعالم المالي هذا، ولا حتى بالسياق الأساسي للنصّ السينمائي: ممثلة في حوض استحمام وبيدها كأس من الـ "شمبانيا"، طبّاخ أثناء عمله، لاعبو "بلاك جاك" على طاولة اللعبة. شخصيات تقول، بلغة عادية جداً، بعض التفاصيل المطلوبة ليتمكّن المشاهد من متابعة الوقائع الدرامية ـ الجمالية للفيلم. هذا كلّه ملتقَط بطريقة "وثائقية"، إذ تنظر كلّ شخصية إلى الكاميرا مباشرةً، أي إلى المشاهدين أنفسهم، وهي تفسّر ما يطلَب منها تفسيره.

قصّة الفيلم مستندة إلى كتاب "ذي بيغ شورت: داخل آلة يوم القيامة" للكاتب والصحافي الأميركي مايكل لويس (1960). الموضوع الأساسي: تحقيق ميداني موثّق حول شبانٍ يعملون في الحقلين المالي والمصرفي، ينتبهون، بدءاً من العام 2005، إلى وجود "خلل" ما في عالم العقارات تحديداً، "سـ" يؤدّي "حتماً" إلى ارتباك السوق العقارية، وإحداث انهيار مالي فظيع. بعض هؤلاء يحاول تنبيه مسؤولين عديدين في "وول ستريت" وعوالمها إلى "خطورة" الأمر، لكن من دون جدوى. بعض آخر يعمل جاهداً على الاستفادة المطلقة من بوادر الانهيار هذا. لكن الجميع "سـ" يحصدون مئات ملايين الدولارات كأرباح صافية منذ اللحظات الأولى للانهيار، الذي يؤدي إلى ما يشبه "إعدام" الطبقتين الفقيرة والمتوسّطة على المستوى العقاري تحديداً، وإلى تشريد مئات الموظّفين من أعمالهم، وإلى إحداث هزّة عنيفة في العالم كلّه.

الإتقان الأدائي أساسي في تقديم الحكاية برمّتها. توتر لدى بعض الشخصيات في مقابل هدوء مطلق للأعصاب لدى شخصيات أخرى، في مواجهة وقائع ينتبه إليها نحو 5 أشخاص، فتبدأ رحلة محفوفة بشتى المخاطر، من دون تناسي الخلفيات النفسية والثقافية والاجتماعية لكل واحد من هؤلاء، المنسابة في طيات السرد من دون تلفيق أو حشو. إتقان أدائي يتساوى والأبعاد تلك، في محاولة الجمع الدرامي بين المخبأ في الذات والروح، والظاهر في أروقة المال والمصارف. وإذا تنبه بعض هؤلاء إلى ما يجري، قبل 3 أعوام على اشتعال النار في السوقين العقارية والمالية، بفضل "مصادفة" بحتة (خطأ غير مقصود في اتصال هاتفي، يؤدي إلى لقاء غير متوقع بين موظّف في مصرف ألماني ومجموعة استثمارية، يتعاونون معاً لاحقاً في صفقات ترفع من أرباحهم، بانتظار "الانفجار" الكبير الذي يطيح بكثيرين، لكنه يؤمن لهؤلاء مئات ملايين الدولارات الأميركية كأرباح صافية لهم)؛ فإن بعضاً آخر يأخذه "ذكاؤه" الاستثنائي إلى البؤر الخفيّة التي تتيح له إلقاء نظرة مسبقة على ما ستؤول إليه الأحوال.

الفُكاهة في محلّها

لن يكون "ذي بيغ شورت" فيلماً تقليدياً، لا في معاينته واقعاً حقيقياً، ولا في مقاربته الحكاية الأصلية، ولا في معالجته الدرامية للمسار التصاعدي للحكاية الأصلية هذه، بدءاً من تقديم الشخصيات في تقطيع سينمائيّ متوازن، وصولاً إلى النتائج (السلبية ـ الإيجابية) الأولى للانهيار، وما يلحقه. ورغم أن المادة الجوهرية "عادية" ومعروفة، إلّا أن التقطيع والتوليف المعتمدَين في البناء الدرامي يُشكّلان تناغماً بين قسوة الوقائع وآلية تقديمها. والتوقّف عند الحسّ الفكاهيّ ليس مصادفة، لأن الحاجة ملحّة إلى شيءٍ من الهدوء وسط التراكم المكثّف للمعلومات والمعطيات والمسارات الحقيقية، ولأن "التفسير المباشر" مطلوبٌ في سياق كهذا.

في مقابل هذا كلّه، سيكون من الصعب إجراء مقارنة ـ نقدية وثقافية واقتصادية واجتماعية ـ بين جديد آدم مكاي وأفلام سابقة عليه. الصعوبة كامنةٌ في اختلاف المقاربة والمعالجة، وإنْ يكن الـ "موضوع" واحداً تقريباً. فالجزآن الأولان من "وول ستريت" لأوليفر ستون يتابعان حكاية غوردن غيكّو (مايكل دوغلاس) في زواريب الصفقات والأعمال المالية في "وول ستريت" (الجزء الأول، 1987)، كما في مرحلة لاحقة إثر خروجه من السجن ولقائه شاباً يسعى إلى اللحاق به كنموذج صاعق في شؤون المال والأعمال (الجزء الثاني: "وول ستريت: المال لا يمون أبداً"، 2010). أما "ذئب وول ستريت" (2013) لمارتن سكورسيزي، فيتابع وقائع السيرة الذاتية لوسيط في البورصة يُدعى جوردان بلفورت (ليوناردو دي كابريو)، وصعوده المتألّق ثم هبوطه في جحيم المال وصخب الحياة الليلية والجشع المادي والاحتيالات المتنوّعة.

من ناحية أخرى، يُعتَبَر "داخل الوظيفة" (Inside Job)، الذي يُحقّقه تشارلز فرغسون في العام 2010، أحد أبرز الأفلام الوثائقية التي تكشف خفايا "رفع القيود الهائل في القطاع المالي"، المؤدّي إلى المأساة، وذلك عبر شهادات مسؤولين أميركيين وأوروبيين مختلفين، يروون وقائع وتفاصيل وحكايات متعلّقة بالانهيار الأخير. بالإضافة إلى هذا، هناك Margin Call (2012) أول روائي طويل لجي. سي. تشاندور، المرتكز على وقائع ليلة واحدة يسعى خلالها مصرف نيويوركي إلى التخلّص من معاملاته "السامّة"، مع تنبّهه إلى مخاطر خطوته هذه، التي تؤدّي إلى الانهيار نفسه. أما "99 منزلاً" لرامين بهراني، فيتوغّل في ثنايا الخراب النابع من سياسة المؤسّسات العقارية، المؤدّية إلى تشريد مئات المنتمين إلى الطبقة الوسطى، الذي يرهنون كلّ ممتلكاتهم من أجل شراء منزل، لن يتمكّنوا من حمايته من طمع المستثمرين.

"ذي بيغ شورت" يبقى أحد أهمّ الأفلام السجالية المتعلّقة بأحد أسوأ المآزق الاقتصادية ـ الأخلاقية في بلاد "الحلم الأميركي".
(كاتب لبناني)

اقرأ أيضًا: أفلام المحرقة، جمال الصورة وخبث الرسائل
دلالات
المساهمون