يتراجع عدد المؤمنين المسيحيين الذين يرتادون الكنائس في بولندا، غير أنّ ذلك لا يبدو مؤثراً على الدور الذي تحتفظ به الكنيسة الكاثوليكية في البلاد.
تغيّرات كثيرة شهدها المجتمع البولندي منذ انضمامه إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، تنعكس اليوم على واقع المجتمع الذي يضمّ 38 مليون نسمة تمثّل نحو 7.4 في المائة من مجموع سكان الاتحاد. من تلك التغيّرات التي رصدتها أبحاث اجتماعية متخصصة، ما يتعلّق بالعلاقات الاجتماعية وكذلك بالدين الذي لعب دوراً أساسياً في تشكيل الهوية الحديثة منذ 100 عام، من خلال الكنيسة الكاثوليكية. فالمجتمع البولندي بأغلبيته، بنسبة 89 في المائة، من الروم الكاثوليك.
تفيد بيانات الكنيسة الكاثوليكية في وارسو لشهر يوليو/ تموز المنصرم بأنّ ثمّة انخفاضاً كبيراً يُسجَّل في نسبة مرتادي الكنائس التي كانت تمثّل نقطة أساسية في حياة شعب بولندا خلال العقود السابقة. وتوضح أنّ النسبة "انخفضت إلى أقل من 40 في المائة". يُذكر أنّ بولندا ووفقاً لتصنيفات الاتحاد الأوروبي، تُعرف بأنّها واحدة من بين أكثر خمس دول يؤدّي فيها الدين دوراً محورياً في مجتمعاتها، إلى جانب أيرلندا واليونان وألمانيا وسلوفاكيا. فمقدّمات دساتير تلك الدول كلها تشير بوضوح إلى الله والمسيحية بالإضافة إلى ديباجة تتناول وصفاً عاماً للقيم والأخلاق في السياق الثقافي المجتمعي. وتحمل ديباجة الدستور البولندي إشارة واضحة إلى دور الدين إذ يأتي فيها أنّ "الأمة البولندية وجميع سكان الجمهورية هم كل أولئك الذين يؤمنون بالله كمصدر للحقيقة والعدل والخير والجمال".
والكنيسة الكاثوليكية التي كانت تملك تأثيراً ونفوذاً في المجتمع، ترى في انخفاض مرتادي الكنائس "مؤشراً غير مبشّر" إذ بلغ مستويات لم تشهدها بولندا في تاريخها الحديث. ففي الفترة الممتدة بين عام 2010 وعام 2013 فقدت الكنيسة مليونَي فرد، لا سيّما الذين كانوا يرتادون الكنائس للمشاركة في قداس الأحد. وعلى الرغم من أنّ في أقاليم جنوبي شرق بولندا، ما زال 70 في المائة من السكان يرتادون الكنائس، فإنّ تغيّرات كثيرة تطرأ في المدن الكبرى، ومنها العاصمة وارسو.
والاهتمام بهذا الجانب في بولندا مردّه إلى ثقافة هذا المجتمع وتقاليده. بالنسبة إلى البروفسور المتخصص في علم اللاهوت، ستانيسلاف أوبيريك، فإنّ "تراجع الأعداد مرتبط بزيادة الازدهار وارتفاع مستوى التعليم في البلاد". ويرى أنّه "في سياق عولمي، فإنّ ازدياد الثراء والرفاهية يُربطان دائماً بالعلمانية. وقد جرى قمع اصطناعي للتطوّر الطبيعي في المجتمع أثناء حكم الحزب الشيوعي". وفي الحقبة التي تلت انهيار الحكم الشيوعي، برزت متغيّرات المجتمع البولندي الدينية بصورة واضحة. فقد تعزّزت عملية التعليم المسيحي في المدارس، بيد أن أوبيريك ينتقد ما يراه "استمرار الكهنة والقساوسة بالهيمنة على منهاج التعليم بطريقة غير مناسبة لطرق التدريس الحديثة".
يُذكر أنّه خلال ثلاثين عاماً، سُجّلت فروق شاسعة بين الأجيال. ففي حين ما زال هؤلاء الذين تزيد أعمارهم عن الخمسين عاماً "يرون في الكنيسة جاذباً"، فإنّ جيل دون الثلاثين "يقرأون الكنيسة كمؤسسة عفا عليها الزمن".
مرتادو الكنائس انخفض عددهم خلال السنوات الأخيرة، إلا أنّ مسألة الدين ما زالت تؤدّي دوراً كبيراً في المجتمع البولندي، ونفوذ الكنائس يمتدّ حتى إلى الحياة النقابية ويعدّها كثيرون ملجأ. ويرى بعض المتخصصين في علاقة الكنيسة بالمجتمع بأنّ ثمّة "علاقة هيمنة ودولة داخل الدولة". وممّا لا شكّ فيه أنّ الكنيسة أدّت أدواراً كبيرة في فترات حاسمة في تاريخ بولندا.
في المناطق الريفية والقرى الصغيرة، ما زال للكنيسة دورها الفاعل في تعزيز العلاقات الاجتماعية في تلك المجتمعات الصغيرة. فالعائلة في مجتمعات الريف ما زالت تضطلع بدور مركزي وتُعَدّ مرجعاً وشبكة أمان لكثيرين، إذ إنّه بخلاف المدن الكبيرة تحافظ القرى على علاقات أسرية متينة. إلى ذلك، تقلّ نسبة الذين يرسلون آباءهم إلى دور رعاية العجزة في تلك القرى، عمّا هي عليه في المدن الكبيرة. وهي تقاليد تعززها "النظرة إلى الواجب على أساس ديني"، بحسب ما يلفت الباحث في الشأن البولندي مايكل هاردنفيلت.
من جهة أخرى، تأتي مسألة الإجهاض كواحدة من أهم النقاط التي تؤثّر فيها الكنيسة. ويُنظر إلى محاولات تشديد القوانين حول الإجهاض والسعي الحكومي منذ عام 2016 إلى منعه، كواحد من عوامل نفوذ الكنيسة في الحياة اليومية في بولندا. ويبحث الحزب الحاكم، القانون والعدالة، عن شعبية أكبر من خلال تشديد قانون الإجهاض، لمعرفته بتأثير الكنيسة ونفوذها في المجتمع. وتربط الكنيسة وأحزاب اليمين والجهات المناهضة للإجهاض الأمر بدراسات مختلفة تصدر منذ عام 2008 وتحذّر من أنّ "عدد سكان بولندا سوف ينخفض سبعة ملايين نسمة في عام 2060، ليصبحوا 31 مليوناً". من هنا، ما زال كثيرون يرون في الكنيسة ودروها في المجتمع البولندي أهمية كبيرة لمحاولة إنقاذه من شيخوخته عبر التشجيع على الإنجاب وبمحفزات اقتصادية مختلفة.