* لتكن فاتحة هذا الحوار من البداية الأولى، من القدس حيث ولدت في "باب السلسلة"، أي داخل أسوار القدس القديمة، لنتحدث قليلًا عما تذكره من مشاهد الطفولة، قصص أو ضوء وظلال.
نعم ولدتُ في القدس القديمة، داخل الأسوار، في حي خاصّ، اسمه حي باب السلسلة. حين كنت طفلًا، كنت أذهب كي ألعب قرب الحرم. فاسم الحيّ مستمدّ من اسم أحد الأبواب المفضية إلى الحرم؛ باب السلسلة، الذي هو أحد أبواب المسجد الأقصى.
في طريقي للذهاب من أجل اللعب، كنت أمرّ قرب الباب، كان ثمّة شقّ يمر منه شعاع ضوء. كنت أحس شعاع الضوء هذا، آتٍ من السماء. وحين أمرّ به، أو أرى الناس يمرّون به أو من خلاله، كنت أحس كما لو أنهم قطعوا "السلسلة". فكما تعلمين، القدس مدينة الديانات السماوية الثلاث، وفيها نجد علاقة الله بالأرض. واسم الباب مستمد من مجاز خاص، فكما أن لله علاقة خاصّة بالقدس، جاء اسم الباب ليقول إن الله يربط القدس بسلسلة. لذلك ربّما، كنت أظن، وأنا صغير، أن الناس يقطعون "السلسلة" حين يمرون من الباب.
اقرأ أيضًا: إيليا سليمان، السينما الصافية تأتي من تلقاء نفسها
لكن، لم أكن أعرف أن الضوء سيكون دومًا حاضرًا في عملي، وأنه سيكون العامل الأساس في أبحاثي أيضًا. لم أفكّر به بشكل واعٍ، بل جاءني بشكل عفوي وتلقائي. والآن بعد كل هذه السنوات، حين أسترجع من أين بدأت، وإلى أين وصلت، أجد أن للأمر علاقة بشعاع الضوء ذاك الذي كنت أراه طفلًا في القدس.
* للقدس طابعها الاستثنائي، يقال إن الحجر يتكلّم فيها لفرط بهائها، ولتلك العلاقة الفريدة بين الأرض والسماء التي نجدها في الكنائس والمساجد، أي المشاهد اختزنتها ذاكرتك، وتستطيع أن تقول إنها وجدت طريقها بشكل ما إلى لوحتك؟ فالمكان الأوّل هو "البئر الأولى" بتعبير مواطنك جبرا إبراهيم جبرا
صحيح، تعبير البئر الأولى تعبير دقيق جدًا، فالقدس كلّها آبار. أصلًا، لا يوجد بيت في القدس من دون بئر. كان بيتنا مشرقيًا وفيه بئر. أتذكر حافّة البئر، حيث مكان الحبل، وكيف ينحت الحجر. تحت القدس آبار كثيرة، وتقريبًا لكل بيت فيها ماؤه الخاص، أظن جبرا استلهم عنوان كتابه، "البئر الأولى" عن طفولته في القدس، من هذا الواقع.
الماء حاضر بشدّة في الحياة اليومية في القدس، أتذكر أنه عند هطول المطر، كانت تُترك المزاريب مفتوحة لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، وينظّف سطح البيت. وبعد ذلك تُركّب المزاريب ثانية، فينزل الماء صافيًا إلى البئر. وكان ماءً شديد البرودة بالطبع، حد إنك لو تركت فيه البطيخ، فسينفلق من شدّة البرودة. كانت حياةً بسيطة وجميلة.
* لكنّها بعيدة تمامًا عن الطابع الريفي، للقدس طابع مديني واضح.
نعم، من هنا أفكّر في السبب الذي يدفعني على التركيز على الأشياء الهندسية أكثر. أفعل هذا منذ أزيد من خمسة وعشرين عامًا. ولعلّ السبب في ذلك الحجر الحاضر في القدس. له لون كلون جلد الأسد، ذهبي تقريبًا ومشوب بلون زهري. أنا أجد كل العلاقات الفنية متمثلة وموجودة في العلاقات الهندسية، وأتخيّل أن للأمر علاقة بطفولتي المقدسية. فقد كنت حرفيًا ألعب بين جدران القدس. لكنني طفلًا كنت أخاف كثيرًا من الشجر خاصّة في الليل. لا أعرف السبب في ذلك، ربمّا لأن ظلّ الشجرة يتحرك، وهي تتحرّك. بينما الحجر لا، فقط لونه يتبدّل ويتغيّر وفقًا لضوء النهار أو ضوء الليل. أنا أميل لهذا الحجر. وهذا الحس الهندسي، أتعايش معه بشكل أفضل. هذا شيء أساسي، لا أحد يستطيع أخذه مني، ولا أستطيع أن أخفيه أو أطمّه. هو يخرج مني بشكل عفوي. وإلا، فمن أين يجيء عملي؟
اقرأ أيضًا: إبراهيم مهوي أنا طالب يتتلمذ على يد الأدب
أظن الفن تجريديًا. بمعنى أن المرء يصوّر ما هو موجود في ذهنه، لا ما يراه، أي هو يجعل مرئيًا ما كان متخيلًا. وهذا خاص بحضارتنا. خلافًا لتاريخ الفنّ الغربي، حيث بدأوا بتصوير ما هو مرئي، وانتقلوا بعد ذلك إلى التجريد.
بالنسبة لي، فإن الفن يبدأ دائمًا بالرؤية المجردة، ثم يُعطى جسدًا مرئيًا. هذه رؤية، لا علاقة لها بطريقة رؤية الغرب. مثلًا في الغرب صوروا الضوء والشمس، نحن لم نفكر بذلك أبدًا، لا لأننا "فقراء" في هذا المجال، بل لأننا نفكّر بطريقة مختلفة، وعلينا احترام ذلك. نظرتنا مهمة، إذ لولاها لما كان التجريد ممكنًا في الغرب، أقصد أنه من دون الفن الإسلامي أو البيزنطي - إذ ثمة علاقة جذرية وزواج بين الحضارتين البيزنطية والإسلامية - ما كان الفن التجريدي ممكنًا في الغرب. ولقد بحثت في الأمر ودرسته.
أتعلمين؟ عام 1910 كان الألمان راغبين جدًا بالتقرّب من العثمانيين، وأراد أمير بروسي عمل شيء، فأقام معرضًا للفنّ الإسلامي في مدينة ميونيخ، هو الأوّل والأضخم من نوعه؛ قطع فنية من إيران والعراق والمغرب وإندونيسيا وغيرها. جاء إلى المعرض بول كلي من بازل، وهنري ماتيس من نيس. وكان فاسيلي كانديسكي يعيش في ميونيخ وقتذاك. ورسم أوّل لوحة تجريدية له، بعد عام من معرض ميونيخ، كانديسكي الذي نشأ مع الفن البيزنطي والأيقونة الروسية. بعد المعرض، سافر ماتيس إلى المغرب، وبول كلي إلى تونس. وبعد ذاك بدأوا بعمل أشياء لها علاقة بالفنّ كعلامة، ولم تعد لوحاتهم تلك التي ترسم الإحساس أو التشخيص والتصوير.
اقرأ أيضًا: منير العكش، الفلسطينيون ليسوا هنودًا حمرًا
* في القدس عملت مع الفنان المقدسي خليل الحلبي الذي كان شهيرًا برسم الأيقونات والتشخيص، أهو الذي هداك إلى الرسم؟ كم كان عمرك، وكيف يمكن وأنت الذي بحثت في تاريخ الفن الفلسطيني، وكتبت "لم يكن في فلسطين أية قاعة لعرض الفنون التشكيلية، كانت هناك نشاطات فردية لبعض الفنانين"، أن تتجه للرسم وتدرك مبكّرًا من خلل تجربتك مع خليل الحلبي أن فنّ الرسم أوسع فتختار دراسته بعد ذاك في إيطاليا؟
طبعًا طبعًا، أدركت أن فن الرسم أوسع. فكل طفل يرسم قبل أن يبدأ بالكتابة أصلًا. الرسم بالنسبة للطفل هو نوع من الكتابة لو شئتِ. أنا بدأت أرسم الأشياء التي أراها. وكنت أجد في البيت كتبًا لأبي وأخوتي، فيها صور. رحت أنقل الصور. أمّا قصة خليل الحلبي، فمختلفة. لم يكن والدي يحبذ أن ألعب في الشارع، وكان يريدني أن أرسم. كان والدي قد علّم إخوتي الأكبر سنًا، الموسيقى. كل واحد منهم يعزف على آلة، ويؤلّفون معًا ما يشبه "الأوركسترا". أمّا أنا فقال لي، أنت الذي سيرسم، وهكذا كان. كنت أحب رسم كل ما أراه. لذا أظنّه، قرر إرسالي لخليل الحلبي، الذي كان لديه مرسم داخل دير. كنت أساعده، في صنع الأيقونة ورسمها، وكنت أكره ذلك، وأمقته.
لكن قدس تلك الأيام كانت غنية، فقد تعرّفت إلى مونيه ومانيه وبيكاسو وماتيس والانطباعيين من الكتب التي كنت أستعيرها من المكتبة الأميركية والمكتبة التابعة للمجلس الثقافي البريطاني، ولم أكن وقتها قد تجاوزت الثانية عشر من عمري.
إلا أن تجربتي في مرسم خليل الحلبي كانت مؤثّرة فعلًا، وقد استعدتها لاحقًا حين كنت في أميركا. فقد اكتشفت هناك الـ Minimal Art، وكذلك الـ Color Field Painting، في ستينيات القرن الماضي. كنت أمرّ أمام واجهات أشهر المعارض، ولا أجد بعدًا روحيًا في الفن الأميركي، فبدأت بالبحث عن معنى الهندسة، هكذا تذكرت طفولتي في المدرسة في القدس، حيث كانوا يعطوننا تلك الأوراق ذات المربعات الصغيرة، ومعها مسطرة وألوان كي نرسم ونلون. إنها التقنية ذاتها التي علّمني إياها خليل حلبي. علمني كيف أنقل الأيقونة، فأضع عليها ورقًا شفافًا، وأشفّفها كلّها، ثم آخذ إبرة، إنه شيء بدائي جداً، وأبدأ بعمل ثقوب، وبعد ذاك أرش فوقها نوعًا من البودرة السوداء، ثم أنزع الورقة، فيبقى على الخشبة المؤسسة بقماش أبيض، "صورة" للأيقونة، ومنها أبدأ الرسم. هكذا "استعدت" فلسطين وأنا في أميركا، من خلال تجربة العمل نفسه. لم أرسم ما كان رائجًا، من قبيل لوحة موضوعها العودة مثلًا، فيصوّر ناسٌ مهجّرون وراجعون.
اقرأ أيضًا: جنزير، الفنان همزة وصل بين عمله وناظره
* هذا يقود تمامًا إلى الفنان إسماعيل شموط، الذي بدا مؤرخًا للقضية الفلسطينية من خلال لوحاته، التي تحمل مواضيع تتناغم إلى حد كبير مع المواضيع التي تطرّق إليها الأدب الفلسطيني في تلك الفترة، الاقتلاع من الأرض، والتهجير والمقاومة وغيرها، وكانت عناوين لوحاته ذات طابع تفسيري لمضمونها. فقد كان هاجس التوثيق والتسجيل حاضرًا بقوّة
صحيح جدًا، وصف دقيق، وربط ذلك بالأدب موّفق جدًا. لكن عند دراسة الفن، يجب أن نترك لغة الفن كي تحكي، لا أن نسقط عليها لغة أخرى. اللوحة يجب أن تتكلم.
في ما يخص إسماعيل شموط، فقد درس لمدة سنتين في روما، التصميم المشهدي أو الإعلاني. وحين ذهب إلى مصر راح يعمل في مجال الإعلانات. لغته هي لغة الإعلان، وهي اللغة التي أخذها إلى موضوع فلسطين بعد ذلك في لوحاته. لكن في سياق ذلك الزمان، وضمن حدوده، فقد قام إسماعيل بعمل تأسيسي. كانت لحظة تاريخية، حيث جمال عبد الناصر كان مكتسحًا القلوب والعقول، فتصوري أثر زيارته لمعرض لإسماعيل شموط؟ أو اهتمام ياسر عرفات بأعماله؟ كان عرفات مدركًا لتلك العلاقة بين السياسة والإعلان. في الجملة تراكمت الأمور وأفضت إلى هذا النوع من الفن، الذي ما يزال حاضرًا لدينا في فلسطين إلى اليوم، حيث تجدين من يرسم وفقًا لـ "مدرسة" شموط. المشكلة أن أحدًا لا يصنع شيئًا إبداعيًا، بمعنى المكان واللحظة التاريخية والحضارية التي يعيشها.
أعود إلى العلاقة بين اللغة واللوحة، أظن من الممكن جدًا النظر إلى اللوحة باعتبارها شيئًا يُحكى، وهذا ليس عيبًا. ففي الفن الإسلامي مثلًا لدينا فن المنمنمات، حيث لا تكون اللوحات ثلاثية الأبعاد، وقد يكون الزمن كلّه موجودًا في لوحة واحدة، كما في قصة زليخة ويوسف، حيث نستطيع "قراءة" القصّة من خلال مشاهد اللوحة، ومن اليمين إلى الشمال كما لو أنها مكتوبة فعلًا.
اقرأ أيضًا: وليد رعد، خدش السياسي ومشاكسته بالفن
* هذا يأخذنا إلى صلب عملك، فقد عملت ملصقات وأغلفة لكتب ولمجلة مواقف وغيرها، وفي الوقت نفسه لديك لوحات يمكن إدراجها تحت تيار "الحروفية" في الفن العربي.
أحب فن الغرافيك جدًا، لأنه مباشر. وكنت أصمم الملصقات باعتبار ذلك جزءً من النضال من أجل فلسطين. كل الملصقات التي عملتها لفلسطين، صممتها أثناء إقامتي في أميركا، وكذلك الملصقات الخاصّة باجتياح لبنان. مثّل هذا بالنسبة لي عملًا نضاليًا. وكنت أيضًا أترجم الشعر الفلسطيني وأقدّم قراءات شعرية. وكانت أميركا ذلك الزمان مختلفة قطعًا؛ أجواء ضد الحرب في فيتنام، الحب في كلّ مكان، والهيبين أيضًا. كانت أميركا جنّة للشباب وقتذاك، فضلًا عن الحركة النسوية. كلّها أمور لا يمكن إلا التفاعل معها، من جهتي أردت تقديم الشاعرات العربيات، وكان أوّل كتاب نشرته عبارة عن أنطولوجيا لشاعرات عربيات، بعنوان "نساء الهلال الخصيب"، أذكر منهن؛ فدوى طوقان، وإيتيل عدنان، وتيريز عواد، وحنان ميخائيل التي غدت بعد ذاك حنان عشراوي، وسلمى الخضراء الجيوسي، والسورية الطيبة سنية الصالح.
* قصّة النكسة خاصتك تستحق أن تُروي، فقد كنت في معرض لك في بيروت، ووقعت "النكسة" فلم تستطع العودة إلى مكانك الأوّل، هل ثمة تفاصيل تريد ذكرها؟ وإلى أي حدّ أثر هذا "الاقتلاع" غير المتوقع على حياتك المطبوعة بالترحال والتنقل. إذ إن النكسة أبقتك خارجًا.
كان لدي كثير من الأمل، فكل عملي في أميركا كان مثل محاولة للعودة. كنت أفكر أن الثورة ستنتصر بعد تسعة أشهر، وهي مدة المنحة التي حصلت عليها في أميركا، ثم أعود وتكون البلاد محررة. شيء ساذج جدًا.
قبل المنحة حصل شيء معبّر عن الطريقة التي كنّا نفكّر بها وقتذاك. استيقظت صباحًا على صوت "نقرة" على الباب، فتحت الباب ووجدت صديقي، الذي أعرفه من روما وائل زعيتر. كان قد ترك روما وأتى إلى بيروت. سألته ما الذي أتى بك؟ فقال لي، أتيت إلى بيروت لأن ثمة فكرة تسكنني، يجب أن نجمّع أنفسنا، ونقوم بمسيرة من بيروت إلى دمشق فعمان فالجسر، نمشي إلى بلادنا. هذا ما فعله غاندي، فلم لا نفعل الأمر عينه؟ يريدون رمينا بالرصاص؟ فليفعلوا. علينا أن نمشي إلى الجسر. ولقد فكرت بك أنت بالذات، كي نبدأ معًا. وإذ كنت أحب وائل كثيرًا، قلت له، موافق.
لكن الحكومة اللبنانية ثم السورية ثم الأردنية، منعت كل "مسيرة". ولم أعد أرى وائل بعدها. قُتل وائل عام 1973 في روما، وقيل إن كانت لديه علاقة بحادثة الألعاب الأولمبية بميونيخ عام 1972. ومن ثم، لم أستطع تجديد أوراق إقامتي، وقبلت منحة التسعة أشهر في أميركا. ظننت ذهابي مؤقتًا، لكنني أمضيت شبابي كلّه في أميركا. في كل مرة أنتقل من بلد إلى آخر، أظن الأمر لمدة محدودة، أو مؤقتًا، هكذا أمضيت أربع سنين في المغرب، وخمسة عشر عامًا في جنوب فرنسا، وها أنا اليوم في برلين.
* السؤال المتوقع إذن، هو عن علاقتك بالمكان المقترح عليك، وعن أثر الاقتلاع من المكان الأوّل.
يصير الفن هو الإحساس بالمكان. كيف نترجم كلمة Home بالعربية؟
* سكنى، منزل، بيت
لا، لا أعرف. منذ سنوات عدت إلى القدس، من خلال فيلم يصور جزءً من حياتي. حين كنا نصوّر في القدس، شعرت نفسي غريبًا، أصادف أشخاص أعرفهم، لكنهم لم يتذكرونني. مثلًا قلت للحلاق أبو باسيل، كيف حالك؟ فأجابني من أنت؟ من هنا اقترحت على المخرج أن يكون عنوان الفيلم stranger at home. وحين كتبت الصحافة العربية عنه، جاءت الترجمة في كل مرّة مختلفة، بين غريب عن دياره أو غريب في وطنه. إلا أن ليس بينها ما يقول فعلًا At home. ويعود الأمر في ظني إلى أن لغتنا قادمة من الصحراء، حيث يبقى الإحساس بالمكان تجريديًا. لا يعني ذلك إننا لا نحس، لكن ليس لدينا الكلمات المعبرة. كنت أبحث عن كلمة تعبّر عن شعوري في القدس، كنت كمن ينظر إلى شيء من خارجه.
* تختار لمعارضك عامّة، موضوعًا معينًا، "سرة الأرض"، "بلقيس، "وكان النورُ" اليوم، كما لو أنك تهندس اللوحات كلّها لتتآلف وتتناغم معًا، ثمة تصميم، وعمل بحثي تحضيرًا لكل هذا، السؤال أولًا عن الرغبة في تأليف معرض تحت موضوع واحد.
صدقًا لا أعرف كيف يتمّ الأمر. أحد نقّاد الفن الإنكليز، انتبه إلى الأمر وقال لي إنني أعمل لوحات ضمن سلاسل ومتواليات. وهذا صحيح. لا أستطيع الإحساس بعمل واحد أو لوحة واحدة فحسب، لذا أحتاج إلى لوحات وأعمال أخرى. معرضي هذا "وكان النور" مستلهم من أيام الخلق السبعة. كما ترين ثمة 7 لوحات تمثّل كل واحدة منها يومًا من أيام الخلق وفقًا لما جاء في الكتاب المقدّس. لم أرسم ما له علاقة بالحدث نفسه، لكن رسمت ما له علاقة بالإحساس. لذ
لا يرتبط الأمر بالبحث بقدر ما يرتبط بالقراءة. كأن أقرأ عن أمر ما، ويشعل في أمرًا آخر، فيحدوني الفضول، وأبدأ بطرح الأسئلة.
من أجل معرض "وكان النور"، كنت فعلًا أفكّر بالخلق، وأظنني زرت متحفًا، ورحت أتساءل عن سبب غياب لوحات عن أيام الخلق السبعة. تذكرت الموسيقي هايدن وعمله الرائع عن الخلق: The Creation، وكان يؤلّف وفي ذهنه العمل الرائع أيضًا لهاندل: Messiah. كنت أسمع الموسيقى، وأفكر: من رسم الأيام السبعة؟ وتذكرت تلك الرسومات "البسيطة" التي كنت أراها في روما، حيث يصوّر الرب جالسًا وبيده دفتر، فيه مرة صورة لآدم وحواء وهكذا. لكن فجأة تذكرت السلسلة والضوء النازل في القدس، فكانت اللوحات السبع.
أنا فعلًا أعمل سلسلة كاملة من اللوحات حول موضوع معين، حدث هذا أيضًا في معرضي عام 2009 الذي كان تحية لعالم الرياضيات العربي الحسن بن الهيثم، الذي كان أوّل من ابتكر دراسة عن معنى أن ينظر المرء، في كتابه "كتاب المناظر". قرأت الكتاب وفكرت بعمل شيء لهذا العالم الجليل. ابن الهيثم اوّل من ابتكر أيضًا فكرة “الغرفة السوداء" أو Camera Obscura ، وبرهن عمليًا أن الضوء يسافر بخطوط. كانوا يظنون أن العين هي التي ترى، وهي التي تصنع "النظر"، لكنه برهن أن الغرفة السوداء هي التي تظهر خط الضوء. حين كنت أخبرك عن ذاك الشعاع في القدس، كنت أراه داخلًا على شكل خط من ضوء. الضوء بحد ذاته جميل، الضوء موضع الجمال. من وجهة نظر جمالية بحتة، لم يكن ابن الهيثم عالمًا فحسب، كان أيضًا أول من بدأ مفهوم الجماليات برؤية جديدة. ثمة كاتب ألماني اسمنه هانز بيلتينغ، كتب عن ابن الهيثم وفضله على فن النهضة في أوروبا، Florence and Baghdad: Renaissance Art and Arab Science”، وإنكار الأوروبيين لذلك.
* أرغب في سؤالك عن الفن المعاصر اليوم، عن رأيك بالتجهيز والأداء Performance والغرافيتي وفنون الشارع. كيف تنظر إليها؟ أتجد فيها تهديدًا للوحة، أم أنك مع وجهة نظر والتر بنيامين؟
أظن أن هذا شيء جميل جدًا، بل في منتهى الجمال، بمعنى أنه يكسر القيود الموجودة. لكن، مع الأجواء التي تشيعها العولمة، ثمة شيء يحدث؛ أنا ضدّ أي نوع من التقليد، لكن التقليد لا بدّ منه. وكثير من الأعمال الفنية التي نراها اليوم تبدو مستنسخة، فلا فرق جوهريًا مثلًا بين تجهيز لفنان ألماني وتجهيز لفنان فرنسي. العولمة أدّت إلى نوع من محو الحدود لو شئت. لقد أصبح العالم شديد الانفتاح. بالنسبة لي، فإن أكثر الأمور جودة وأفضلها، هي تلك التي تكون مختلفة، فالسينما لم تلغ المسرح، مثلما لم تلغ الأوبرا الحفلة الموسيقية. الإبداع بحد ذاته، يشبه الشجرة ذات الفروع، وقد تكون شجرة مثمرة، وقد تسقط الثمار على الأرض وتذوي. ماذا بقي اليوم من تيار الـ Happening، الذي كان رائجًا في الخمسينيات من القرن المنصرم في نيويورك؟
اللوحة شيء مختلف، هي نوع من الكتابة. أحيانًا أراقب الأطفال وهم يرسمون، وألاحظ أنهم حين يركزون في الرسم، يقومون لا إراديًا بتحريك لسانهم بطريقة توازي تحريكهم للقلم. ثمة علاقة بين اللوحة والكلام إذن.
* لكن ثمة انتقال من لغة إلى أخرى. من لغة مكتوبة إلى لغة بصرية. مع ذلك لن يكون سهلًا تجنب سؤالك في هذا السياق عن الحروفية.
حين رسمت تلك اللوحات التي عدّت من تيار الحروفية، لم أكن قد فكرت مطلقًا بالحروفية، إذ لم أكن أعرفها. بدأ الأمر في روما، كنت أدرس الرسم وأكتب في الشعر في الوقت ذاته، فكما أن كل عاشق للغة العربية يظن نفسه شاعرًا، تصوّرت نفسي كذلك. كنت أكتب الشعر والجمل الشعرية وأضمّنها في اللوحات. وكان لدي صديق هو الفنان السوري عبد القادر أرناؤوط الذي كان يرسم ويكتب الشعر كذلك. وحين ذهبت إلى أميركا رسمت لوحات وضمنتها شعرًا فلسطينيًا، استعملت الحبر الصيني والألوان المائية. فعلت ذلك، لأنني كنت أرى فن Minimal Art ، في أميركا"فارغًا"، أرى الألوان ولا أرى الإحساس، لوحات فاقدة للمعنى. فقررت عمل شيء يتفاعل مع المكان الذي أتيت منه، وكذا كان، اتجهت للكلمات. أتذكر أن أوّل عمل فني استلهمته من الآية الكريمة "وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟" أردت رسم شيء وأن أراه في داخله، فكتبت الجملة بطريقة معكوسة، ركبّتها بطريقة معكوسة. وانتبهت إلى أمر أساس في الهندسة الإسلامية، الزاوية القائمة وعلاقتها بالمربع.
لم أكن أعرف أن المربع، والخط المائل الذي يقسمه إلى مثلثين، هو أساس كثير من الزخرفة الإسلامية. ومنه تتسلسل المربعات وتتوالى وترتبط ببعضها. أردت إبراز المكان الذي أتيت منه، ولم أكن أعرف أن هذا يندرج في "الحروفية". لكن حين اكتشفت أنه يوجد في العالم العربي تيار الحروفية الشهير، توقفت تمامًا، فقد أحسست الأمر مبتذلًا وتجاريًا. إلا أن قراءتي لابن الهيثم أعادتني للكلمات، فرأيه بالضوء والألوان أثّر بي كثيرًا. اخترت من كلماته لإقامة المعرض. لطالما فتنني قول الجنيد، وكان زجّاجًا :"الماء من لون الإناء". أخذت الكلام كي أقول إن الشكل والمحتوى هما شيء واحد. وهما مرتبطان عضويًا. فأنا آخذ شيئاً من القرن الـ 12 أو الـ 13 وأضعه في الحاضر.
* أنت باحث في الفن، وتعلم أن نقاد الفن العرب قلائل، رغم وفرة الأعمال الفنية العربية. وقد تشعبت الأمور، إذ لم يعد الفن مرتبطًا بالمتعة الجمالية.
بالنسبة لي المتعة الجمالية في الأشياء، بحاجة إلى ثقافة. انظري إلى الكلمة ثقّف، يقال ثقّف القلم أي براه. يجب أن تكون الكتابة النقدية الفنية عارفة وإلا فلا معنى لها. للأسف الأمور لدينا معيبة. مثلًا ألّف المصري ثروت عكاشة كتابًا ضخمًا عن الفن الإسلامي، وحاز به جوائز عديدة، مع أن ثلاثة أرباع الكتاب منقول من مصادر أجنبية من دون أي توثيق لذلك أو حتى إشارة. السوري عفيف بهنسي عمل الأمر ذاته، وألّف كتبًا لصالح منظمة اليونيسكو من دون أن يشير إلى مصادر اقتباساته. كتبٌ ليست إلا نقلًا حرفيًا عن المصادر الغربية، وفي غالب الأحيان تفتقر إلى الفهم الصحيح. وأحيانًا أجد أمورًا كتبتها بنفسي في كتب نقدية لغيري من دون أي إشارة لمصدر.
* هذا ما حصل أصلًا مع تلك الباحثة الإسرائيلية غانيت أنكوري، التي استولت على بعض نتائج أبحاثك العلمية
نعم. لكن وقتها رفعت صوتي ولجأت إلى الإعلام لأنها إسرائيلية. أما حين "تقتبس" كتاباتي وأبحاثي من قبل كتّاب عرب، فأصمت ولا أفعل شيئًا.
* ثمة اهتمام اليوم بالفنّ العربي المعاصر، إذ إننا نجد متاحف جديدة خاصّة في منطقة الخليج العربي، وتاريخيًا لدينا متاحف في المدن العريقة بغداد ودمشق والقاهرة. كيف تنظر إلى الأمر وإلى المجموعات الفنية؟
اليوم لم يعد لدينا مركز. والحركة الفنية لا يمكن أن توجد إلا بدءًا من مركز. تتركب الأمور بعفوية، تكون ثمة مقاه معينة في مدينة معينة بمرحلة معينة، ويجتمع شعراء ورسامون ومثقفون، فيحدث شيء إيجابي. بيروت كانت ذلك المركز.
لم أرَ الكثير من مجموعات الفن في العالم العربي، أعرف المتحف في دمشق، وأعرف ما موجود في متاحف أخرى. لكن المحزن في ظني أمر آخر. أظن أنه من المهم جدًا أن تصير لدينا متاحف، وأن يكون لدينا مكان لحفظ تراثنا الفني وصونه. لكن المشكلة هي في عدم وجود ثقافة مرافقة لذلك. المجموعات الفنية اليوم أقرب إلى التجميع الـ eclectic، بمعنى أن الجمّاع يؤلّف مجموعة تمثيلية بطريقة عشوائية، لا علاقة لها بأصول التجميع. بينما في الغرب يكون جمّاع الفن عارفًا لما يفعل، إذ يراقب انتاج فنان معين، ويقتني من كل مرحلة من مراحل الفنان عملًا. ويكون متابعًا عن كثب وعن معرفة لأعماله، فهذا نوع من الاقتناء العميق، القائم على المعرفة. خلافًا للجمّاعين العرب، حيث تجدين مجموعات فنية كلّفت الكثير من النقود، لكنها "فارغة"، لا عمق فيها ولا تركيز. إلا أن الاقتناء العميق مهم جدًا، أفكّر بحالتي؛ فأنا أحبّ لو توجد مجموعة من أعمالي في مكان واحد، لأنني أعيش الشتات، ولا أريد لأعمالي المصير ذاته. المجموعات الفنية تتيح للمرء رؤية الفكرة ذاتها لكن من أبعاد مختلفة.
أريد الإشارة إلى أمر أخاله مهمًا، فقد لاحظت خلال السنتين أو الثلاث الماضية، اتجاهاً لدى الطلاب في أميركا لدراسة "تسويق" الفن العربي المعاصر، مع أنهم غير مختصين به ولا يفقهون شيئًا عن حضارتنا. كل ما في الأمر أنهم مهتمون بالنقود. الفكرة إننا نظن اهتمامهم بفننا دليلاً على أهميته، وهم مهتمون بالسوق فقط، حد أن تسويق الفن يغدو موضوع دراسة. ولم يحدث أبدًا في أي حضارة أن وجدت صلة من هذا النوع بين السوق والفن، لطالما كان السوق أمرًا هامشيًا. لكنه اليوم غدا بمنزلة المركز وهذا خطير. فالإبداع لا علاقة له أصلًا بالسوق. وأعود على فكرة "تجميع" الأعمال الفنية، ثمة من يظن الأمر غربيًا ولا علاقة له بحضارتنا وهذا غير صحيح. الصحيح إن نظرتنا لما هو فن مختلفة، ولها علاقة بالبيئة حولنا. الفن بالنسبة لنا امتداد للفضاء اليومي، لذا تجدين مثلًا سجادة أو خاتماً أو صينية مصنوعة يدويًا، هكذا كان الجمّاعون العرب. فكيف انقلب مفهومنا هذا عن الفنّ وتحول إلى "السوق" وفقًا للمفهوم الغربي؟ كما لو أننا جاهلون بمن كنا قبلًا، وبما كان لدينا. رؤيتنا مختلفة، لسنا متخلفين، لكن الغرب هو الذي يقول هذا ونحن نصدقه والأنكى أننا نريد تقليده في شيء. العيون هنا ترى بطريقة مختلفة عن العيون هناك. أخذ الغرب منّا أكثر من 10000 أمر، وهم لا يعترفون بذلك، لكننا نعترف بكل "أفضالهم" علينا، لكأن الاستعمار يتلبسنا.