في كتابه "اللغة، الهالة، التاريخ، والحداثة: قراءات في فكر فالتر بنيامين"، الصادر قبل أيام عن "دار ميم" الجزائرية، يُقدّم الأكاديمي والباحث والمترجم الجزائري كمال بومنير محاولةً في التعريف بالمفكّر والناقد الألماني (1829 - 1940) الذي لم ينل حظّه من الاهتمام عربياً مقارنةً بغيره من المفكّرين والفلاسفة النقديّين الألمان المعاصرين، رغم أنه واحدٌ من أبرز الأسماء في الفكر المعاصر خلال القرن العشرين الموسوم بأوضاع سياسية مضطربة وبتحوُّلات فكرية واجتماعية واقتصادية عميقة.
يتألّف العملُ من قسمَين؛ يضمّ الثاني ترجمةً لبعض نصوص بنيامين، بينما يتناول الأوّلُ مسائل اللغة والفن والتاريخ لديه من خلال ثلاثة فصول، يُضيء أوّلُها على موضوع اللغة والترجمة والتأويل، حيث تقصّى الكاتبُ الخطوطَ الأساسية التي تميّز موقف الفيلسوف الألماني من اللغة والترجمة وفق منظوره التأويلي المركّب، وما يُثيره هذا الموقف من نقاشات على المستويات الأنطولوجية واللاهوتية والفلسفية. والثاني، يُضيء على أفكاره الجمالية والفنية التي تحتل مكانة بارزةً في فكره النقدي، وهو الذي خصّص لهذا الحقل المعرفي عدداً من أعماله الفلسفية والأدبية. أمّا الفصل الثالث والأخير، فيرصُد موقف بنيامين من التقدُّم والحداثة والتاريخ، ضمن رؤيته الفلسفية للتاريخ وتأويله لمسار التقدُّم الإنساني ونقده للحداثة في سياقاتها الغربية.
يُشير الباحث والأكاديمي الجزائري وحيد بن بوعزيز، في تقديمه للكتاب، إلى أنَّ الأخير يتضمّنُ متابعةً متقصّيةً وقراءات حصيفة في "مُنجَز فلسفيٍ معروف عنه قوّته الاختزالية وفتوحاته الرؤياوية؛ فالمعروف عن فالتر بنيامين نزعتُه المشيحانية التي انعكست على كتاباته فأضفت عليها لحناً جنائزياً مرّات ولغةً أقربَ إلى النبوّة مرّات أُخرى"، مضيفاً أنَّ العملَ يُقدّم نظرةً موجزَة حول فكره، طاولت مجموع اهتماماته وكتاباته والبراديغمات التي اشتغل عليها.
ويُلخّص بوعزيز مضمون العمل ضمن ثلاث محطّات أساسية؛ هي نظرةُ بنيامين إلى البُعد الثيو- أنطولوجي للغة مع التطرُّق إلى نظريته حول الترجمة، والكلام عن التحوُّلات المعرفية وإشكالاتها في مجال الجماليات عند صاحب "نظرية الهالة"، ونقدُ أيديولوجيات التقدُّم، والتحذير من الكارثة، معتبراً أنَّ أهمّ ما يمكن أن يجده القارئ في هذا الكتاب هي نظرةُ المفكّر الألماني إلى التاريخ والسياسة؛ وهو الذي أضفى معنىً جديداً على التاريخ، ينطلق من حيوات الناس وليس من التأمُّل المجرَّد.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يُلاحظ كمال بومنير أن فالتر بنيامين لم يحظَ بنصيب وافرٍ من الدراسات والبحوث في الفضاءات الأكاديمية والثقافية والإعلامية العربية مقارنةً بمعاصريه من المفكّرين والفلاسفة النقديّين الألمان، خصوصاً روّاد الجيل الأوّل من "مدرسة فرانكفورت": ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركوز، وإريش فروم، والذين اشترك معهم في مشروعهم الفلسفي النقدي، غير أنه بقي محافظاً على استقلاليته الفكرية، بل ومتّخذاً في بعض الأحيان مواقفَ نقديةً جريئةً تجاه بعض أفكار هوركهايمر أو أدورنو.
يُشير بومنير، في هذا السياق، إلى أنَّ أغلب كتابات فالتر بنيامين الفلسفية والأدبية غيرُ مترجمة إلى اللسان العربي، في الوقت الذي تشهدُ الدراسات الفلسفية والأدبية في العديد من بلدان العالم اهتماماً متزايداً بأعماله التي أصبحت تستقطب العديد من المفكّرين والباحثين في المجالات الفلسفية والأدبية والفنية والثقافية والسينمائية.
في كتاباته كما في ترجماته، والتي يصل مجموع ما صدر له فيهما إلى ستّة عشر كتاباً، يشتغل بومنير على أعمال فلاسفة مدرسة فرانكفورت ممثّلةً في أجيالها الأربعة: جيل النظرية النقدية الأولى (ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، وهربرت ماركوز)، وجيل النظرية النقدية الثانية (يورغن هابرماس، وألبرشت فيلمر)، وجيل النظرية النقدية الثالثة (أكسل هونيث، وأوسكار نيغت، ونانسي فريزر)، وجيل النظرية النقدية الرابعة (هارتموت روزا، وراينر فورست). أمّا كتابه الجديد فليس الأوّل له عن فكر بنيامين؛ إذ صدر له في 2013 كتابٌ بعنوان "مدخل إلى قراءة فلسفة فالتر بنيامين".
يوضّح بومنير، في حديثه إلى "العربي الجديد"، أنّ عمله الجديد يأتي ضمن محاولته الإسهام في التأسيس لفكر عربي نقدي من داخل النظرية النقدية، بالاستفادة مِن جهازها المفاهيمي، ومقولاتها وتحاليلها النقدية، ومقاربتها للقضايا والإشكاليات الفلسفية المتنوّعة، ضمن رؤية كليّة ترتكز على ما يسمى بالتحاقُل المعرفي Interdisciplinarité.
يُضيف: "لدّيَ قناعةٌ بأنّنا في حاجةٍ ماسّة إلى تأسيس فكرٍ فلسفي نقدي مُتحرّر من المنطلقات والخلفيات والأبعاد الأيديولوجية الضيّقة التي أطّرت ووجّهت العديد من دراساتنا الفلسفية العربية بصورة سلبية وغير مجدية، بالنظر إلى خصوصيات قضايانا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ووضعنا الحضاري والتاريخي"، ويُتابع: "أملي كبيرٌ في أن يُسجّل هذا الكتابُ حضوراً لدى الطلبة والباحثين والمهتمّين بالشأن الفلسفي في بلادنا العربيّة، خصوصاً أنَّ المكتبة العربية تُعاني نُقصاً كبيراً في مجال الدراسات المتخصّصة في فكر بنيامين، الذي يُعدّ، من دون شك، أحد أكثر المفكّرين والفلاسفة المعاصرين أصالةً".
نسألهُ هنا عن رأيه الشخصي في ما كُتب عن فالتر بنيامين باللغة العربية، فيُجيب قائلاً: "أعتقد أنّ حضوره باهتٌ في الفضاء الفكري العربي. وكثيرٌ ممّا يتوفّر عنه بالعربية دون المستوى بالمقارنة مع ما نُشر له من أعمال متخصّصة في أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية وبعض البلدان الآسيوية، وفي عدد كبير من الحقول المعرفية والفروع الأكاديمية؛ مثل الفلسفة النقدية، والنقد الأدبي، والدراسات الثقافية، والنقد السينمائي، وعلم العمران، والجماليات. باختصار، يمكن القول إنّ أهمية الكتابة عربياً عن فكر فالتر بنيامين تأتي من واقع أنّه لم يجد حظّه من البحث والدراسة والاهتمام، تأليفاً وترجمةً، في فضائنا الفكري العربي".
بطاقة
باحث ومترجم من مواليد 1962 في الجزائر العاصمة. من مؤلّفاته: "جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت" (2010)، و"أكسل هونيث، فيلسوف الاعتراف" (2015)، و"الفلاسفة والألوان" (2016)، و"الفلاسفة والأنغام" (2017)، و"في معنى الجميل" (2018). وفي الترجمة: "الجمالية المعاصرة" لمارك جيمنيز (2012)، و"التشيّؤ" لـ أكسل هونيث (2012)، و"مولد الاستطيقا ومسألة معايير الجميل" لـ لوك فيري (2019).