لم تكن مُواجهة التونسيين لتاريخ بلدهم بالأمر الهيّن، خصوصًا مع الحجم الثقيل للفظاعات التي كشفتها جلسات الاستماع لضحايا الأنظمة التي تعاقبت على حكم تونس منذ الاستقلال حتى الثورة التي انتفضوا فيها على ديكتاتورية جثمت على صدورهم جيلاً بعد جيل.
من بين القصص التي أثارتها هيئة الحقيقة والكرامة في هذا الإطار، كانت قصة الشهيد كمال المطماطي، على لسان زوجته لطيفة المطماطي ووالدته فاطمة خير، شاهدًا على بشاعة نظام احترف التدمير الجسدي والمعنوي لمعارضيه وذويهم. وعلى عكس باقي الشهادات التي توزّعت بين ضحايا رووا بأنفسهم ما تعرّضوا له، أو عائلات تحدّثت عن قتل أحد أفرادها، كانت قضية المطماطي حديثًا عن شهيد حي، وفق السجلات المدنية، باعتبار أنه لا يُعرف إلى حدّ اللحظة أين تمّت مُواراة جثمانه.
بورتريه
وُلد كمال بن علي بن التوهامي المطماطي في مطماطة من محافظة قابس (الجنوب الشرقي) يوم 3 مارس/آذار 1956، درس العلوم والرياضيات وتزوّج من قريبته ورُزق منها بابن وبنت. عمل كمساعد مهندس في فرع شركة الكهرباء والغاز في قابس، نشط في العمل النقابي في تلك الشركة ونشط أيضًا في العمل السياسي ضمن حركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليًا) في مسقط رأسه بمطماطة، وفي قابس. يصفه أفراد عائلته بأنه يتميز بأخلاق طيبة ولا يجامل في الحق وصاحب مبدأ. أما زملاء العمل فيصفونه بأنه كان خلوقًا ومحبوبًا لدى الجميع ويدافع بقوة عن حقوق العمال.
تروي زوجته وقائع اعتقال زوجها ذات ثلاثاء من شهر أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1991 واقتياده من مقر عمله في شركة الكهرباء والغاز في قابس، ليتحولوا به مباشرة إلى مكاتب المصلحة المختصة داخل مقر منطقة الشرطة في قابس. وبمجرد وصوله، تناوب أعوان الأمن في المصلحة المختصة على ضرب كمال بقوة وعنف في مختلف أنحاء الجسم، فأُغمي عليه نتيجة كسور لحقته في يديه.
وتتابع نقلًا عن أحد الموقوفين الذين عاينوا حالة تلك الكسور، كان طبيبًا، لما طلب منه فحصه في المرة الأولى وأعلمهم بها، لكن أصر أفراد البوليس على مواصلة التنكيل به، ساخرين بالقول "أفلام عنا منها برشة"، مواصلين ضربه بعصا بقوة ووحشية، فسقط مغشيًا عليه وفارق الحياة نتيجة ذلك. وقد طلب الأعوان مجددًا من الطبيب الموقوف فحصه بالقول "إيجا يا طبيب شوفه"؛ فجس نبضه وتحقق من وفاته، لحظتها صاح: "مات مات"، فقام الأعوان بسحب الجثة إلى خارج المكتب. وقد أوهموا الموقوفين مع كمال حين افتقدوه أنه تم نقله إلى مقر وزارة الداخلية لمواصلة التحقيق معه. وأن معاملة الأعوان انقلبت نحوهم في الحين من النقيض إلى النقيض، وانقطع تعذيبهم طيلة الثلاثة أشهر التي أمضوها هناك رهن الإيقاف.
وجاء على لسان الأمنيين أنهم تولوا نقل جثة الضحية إلى تونس في ليلتها بأمر من رئيس المصلحة، الذي تلقى أمرًا مباشرًا في ذلك من رئيسهم في وزارة الداخلية. وأنهم أوصلوا جثة كمال إلى مستشفى قوات الأمن الداخلي بالمرسى وسلموه لشخصين هناك، وأنهم تحولوا مباشرة إلى مقر وزارة الداخلية في تونس، وأعلموا رئيسهم بإتمام المهمة ورجعوا إلى مدينة قابس.
في اليوم التالي لوفاة كمال، تحولت عائلته إلى منطقة الشرطة في قابس، للسؤال عن مصير ابنها، ظنًا منها أنه ما زال موقوفًا هناك. وعوض أن تُعلمهم السلطات بحقيقة الأمر، أجابتهم بأنه لم يوقف، وأنه ليس في المقر الأمني. وأصر الأمنيون على إنكار وجوده لديهم، رغم أن الزوجة شاهدت بأم عينيها اسم كمال المطماطي ضمن قائمة الموقوفين في دفتر الإيقاف، لكن لم تحصل على أي معلومة حول مصير زوجها. وتواصَل هذا الإنكار طيلة الأشهر والأعوام، وكانت العائلة تبحث عن ابنها في أماكن الاحتجاز والسجون والمستشفيات أو حتى الثكنات العسكرية، في مختلف أنحاء الجمهورية، من دون جدوى، واتصلت بمسؤولي وزارة الداخلية والسلطات القضائية ورئاسة الجمهورية، إلا أنها لم تظفر بأي معلومة عن مصير ابنها.
حينما تتحوّل الجسور إلى قبور
زوجة كمال وكل أقاربه ظلوا يبحثون طوال سنين عن الجثة.. عن مكان دفنها، ولكن من دون جدوى، فكل المسؤولين الأمنيين أنكروا معرفتهم بمصير كمال، وكأن أرضًا ابتلعته. هنا تقول والدته المسنة: "لقد توفي والد كمال وكان كل أمله هو أن يتمكن في يوم ما من مواراة جثمان فلذة كبده الثرى، والتحق به حفيده (ابن كمال ويُدعى عثمان) إثر حادث مروري، وهو الذي عاش مصدومًا بسبب هذه الواقعة المأساوية".
ظلّت التّساؤلات حول مصير جثة المطماطي بدون أجوبة، إلى حين إدلاء عائلته بشهادتها في جلسات الاستماع، ليتفاعل معها عبد الفتاح مورو، نائب رئيس حركة النهضة ونائب رئيس مجلس نواب الشعب التونسي، على قناة الجزيرة، وهو يروي شهادته على ذلك العصر.
كشف مورو، في حواره التلفزيوني، عن وجود جثث مجهولة الهوية إلى غاية الآن، ليؤكّد أن "الشهيد كمال المطماطي دُفن في خرسانة لإقامة قنطرة (جسر) تم تشييدها في ذلك الوقت"، وفق ما بلغه من مقربين من قيادات أمنية شاركت في عملية اغتيال الناشط السياسي، لتزداد المأساة مأساة، والبشاعة بشاعة.
ورغم أن شهادة مورو حول مصير دفن المطماطي لن يتسنى التأكّد من تفاصيلها في الوقت القريب، وسواء ثبتت صحّتها أم لم تثبت، إلا أنّها حوت رمزيّة مُزلزلة هزّت أركان النّظام القديم الذي ظلّ، حتى بعد الثورة، يتغنّى بإنجازاته الاقتصادية على مُستوى البنية التحتية من طرقات وجسور، ليتبيّن لاحقًا أنه، حتى الجسور مثار الإشادة والاحتفاء، لم تخل من دم الأبرياء، فقد شيّد أساس أحدها على جمجمة مُناضل سياسي، تُهمته أنه رفض الاستبداد وعارض الديكتاتورية.