كل الشعب جيش

29 سبتمبر 2016
(لافتة إعلانية في شوارع العراق، "العربي الجديد")
+ الخط -
منذ طفولتي وأنا أكره العيد، تصيبني أجواؤه بالحزن والوحدة. في يومه الأوّل، اتصل أحد أصدقائي لأجل الخروج فرفضت، تحجّجت بالمرض، لكن الحقيقة أن رؤية الناس في المناسبات تُرعبني؛ تبادل التهاني والابتسامات المصطنعة، كأن الحياة فجأة تتحوّل إلى مسرح دُمى، وتخترقني يد تسيّرني على الخشبة.

ثلاثة أيّام مرَّت بخير؛ لأن رغبة الخروج في العيد تقلّصت لدى الجميع بسبب الاختناقات المرورية الرهيبة في العاصمة؛ إذ تعمد قيادة عمليات بغداد إلى قطع العديد من الطرق كإجراء أمني تنفّذه في جميع المناسبات.


إعلان مستفز
في اليوم الرابع من العيد، اتصل بي صديق مقرّب يُخبرني أن صديقنا الآخر سيهاجر العراق في غضون أسبوعين، وعلينا أن نرتّب للقاء نتحدّث فيه عن البلاد التي تنفي مبدعيها واحدًا تلو الآخر، وعن النساء والتدخين والضحك، وربما نبكي قليلًا. فكّرت أن أفضل مكان لأجل لقاء كهذا هو حدائق أبي نوَّاس، الشاعر رفيق جيّدٌ لثرثرة أخيرة، ودجلة أجدر بالإصغاء للوداعات، سيكون حضنًا دافئًا في وقت كهذا.

بعد أقلّ من ساعة على مكالمة صديقي، نشر الصديق حيدر على حسابه في فيسبوك صورةً للوحة إعلانية كُتب عليها: "كل الشعب جيش"، وفي أسفل اللوحة كان الإمضاء: أمانة بغداد.


وداع
يقول الصديق حيدر؛ كنت قادمًا من الباب الشرقي متوجّهًا إلى أبي نوّاس، عَلِقتُ في سيطرة أبي نواس المزدحمة، ورأيت هذا الإعلان الذي استفزني كثيرًا، معلّقًا على بعد أمتار من مدخل الشارع. سألت حيدر: إن استفزك أنت، فماذا فعل بأبي نوّاس الشاعر؟.

جميع مشاعر الاختناق والحزن التي تسبّب بها خبر هجرة صديقي، استبدلت بمشاعر غضب وسخرية، أنا أرى المشهد واضحًا الآن: كاتبان من الشعب العراقي، يودّعان شاعرًا عراقيًا سيُهاجر العراق، في حديقة شاعر عاش في العراق قبل مئات السنين، وعلى مقربةٍ منهم تُعَلّق لوحة تحمل شعار: "كل الشعب جيش"، فيصبح اللّقاء أشبه بتسريح مجند من الخدمة العسكرية، سننتظر كجنديين مطيعين قدوم صديقنا الجندي الثالث، سنجلس معًا على ضفّة النهر ونحتفل بمناسبة انتهاء خدمته العسكرية في هذه البلاد / الثكنة، ربما سيُسلّمنا سلاحه الافتراضي، ويترك قميصه المرقّط، ليضعه على كتفي الشاعر العباسي كي لا يحاسبه آمر الثكنة على الوقوف في الحديقة باللّباس المدني.


خوذة عسكرية
وبعد اللقاء الأخير، سأحمل نفسي كما يحمل العائد من الحرب بثقلٍ نفسه، شعري الطويل لن يكون في الصورة، وما قالوا لنا عن "المدينة" في السنين التي مضت محضُ خرافات، نحن الشعب / الجيش، شوارعنا خنادق، وأفكارنا السعيدة التي تطوف فوق رؤوسنا بين حين وآخر، ليست سوى خوذ حديدية خضراء، سأعتذر من الجندي في نقطة التفتيش على الطريق السريع، قبل أسبوع طلب مني أن أحلق رأسي ورمقته بنظرة ازدراء متعالية، سأعتذر منه لأني ظننت حينها أني شاعر، واليوم فقط عرفت بحقيقتي العسكرية.

الوداع يا صديقي، ربّما سنلتقي قريبًا، من اليوم ستبدأ رحلة البحث عن تسريح من الخدمة العسكرية.


(العراق)