كلنا مريم المقدسية

25 يناير 2019
+ الخط -
بين ملهاة ومأساة تنشطر قلوب المقدسيين. يرقبون ملهاة المتصارعين على السلطة في مقاطعة رام الله ومحيطها، ويعيشون مأساة الاستيطان الذي يلتهم مدينتهم. إما أن تهدم منزلك بيديك، أو تدفع تكاليف هدمه بجرافات الاحتلال. لا خيار ثالثا أمام المقدسيين في مواجهة سياسات الإسرائيلي الرامية إلى تهويد المدينة، وتفريغها من أهلها الفلسطينيين. إما أن تغلق متجرك، أو تواجه مزيدا من الضرائب والمخالفات والعقوبات. لا خيار ثالثا أمام تجار القدس الذين يحاربهم الاحتلال في لقمة عيشهم، ومصادر قوت أولادهم، لدفعهم إلى الهجرة أو بيع ممتلكاتهم. إما أن ترحل طوعاً أو تُسحب منك بطاقة الهوية والإقامة، وتُرمى وعائلتك خارج مدينة القدس. إزاء كل هذه السياسات الإسرائيلية العنصرية التعسفية، لا خيار للمقدسي المرابط سوى الصبر على وبال الاحتلال وبلواه.
تسارعت وتيرة سياسات الاحتلال ضد المدينة وأهلها منذ إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى الشطر الغربي من المدينة. خلال الأسابيع القليلة الماضية، أخطرت سلطات الاحتلال أكثر من 800 مقدسي بإخلاء مساكنهم لصالح جمعيات استيطانية يهودية. وحسب الإحصائيات الفلسطينية، يسكن القدس الشرقية قرابة 400 ألف فلسطيني، يقابلهم 220 ألف إسرائيلي، وتعمل سلطات الاحتلال على تغيير هذه المعادلة بحلول عام 2020 مع الإعلان عن تدشين "القدس الكبرى" التي ستقلص عدد الفلسطينيين إلى 12%، بينما ستكون الأغلبية من اليهود بواقع 88%، لتوطين نحو مليون مستوطن في القدس وضواحيها. كان العام الماضي الأكثر نشاطا للمشروع التهويدي في القدس، حيث تمّت المباشرة في بناء أكثر من عشرة آلاف وحدة استيطانية في القدس ومحيطها، منها 2400 وحدة داخل الأحياء المقدسية، بالتوازي مع تصعيد عمليات طرد للمقدسيين، وهدم منازلهم وإحلال للمستوطنين داخل الأحياء السكنية الفلسطينية في سلوان، وشعفاط، والشيخ جراح، وبيت حنينا.
وإلى جانب القرارات الإسرائيلية بالاستيلاء على أكثر من 700 منزل فلسطيني ونقل ملكيتها لمستوطنين يهود، تمتد أيادي الاحتلال ومنظمات الاستيطان إلى مباني المؤسسات الفلسطينية وأراضيها، فقد قرّرت بلدية الاحتلال في القدس إغلاق مدرستين تاريخيتين في البلدة القديمة، بغرض تحويل بناءيهما لصالح المستوطنين في سياق تهويد المدينة المقدسة. وترمي بلدية الاحتلال إلى إغلاق مدرسة القدس الإعدادية بعد عامين، وتحويلها إلى مدرسةٍ دينية للمستوطنين. فيما ستُغلق مدرسة خليل السكاكيني للبنات، مطلع شهر سبتمبر/ أيلول المقبل، ليتم تحويلها إلى مبنى آثار للاحتلال.
بالصبر، والاستعانة بالله فقط، يواجه أهل القدس قرارات الاحتلال الماضية إلى تهويد المدينة وتشريد أهلها. لا يعولون في ذلك لا على أنظمة عربية تزحف على بطنها نحو إسرائيل، ولا على سلطة فلسطينية عاجزة حتى عن منع تسريب عقارات القدس وبيعها للمستوطنين اليهود. بل السلطة متهمة الآن بالتواطؤ، بعد تسليم عصام عقل للولايات المتحدة عن طريق إسرائيل، على الرغم من إدانته بتسريب عقارات وأراض في القدس لجمعيات استيطانية، وصدور حكم فلسطيني بحقه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
وسط كل هذين الظلم والظلام اللذين يطاولان الحجر والبشر في زهرة المدائن، تُضاء بعد أيام شمعة حملة "كلنا مريم" العالمية للتضامن مع حرائر القدس، المرابطات في المسجد الأقصى، الصابرات في أكناف أولى القبلتين وثالث الحرمين، الصامدات على تراب القدس مثل أشجار الزيتون. أمهات الشهداء، شقيقات الأسرى، نبض المدينة المقدسة وزيت قناديلها. هنَّ مريم التي وهبت ابنها المسيح لخدمة بيت المقدس. تهدف الحملة إلى تسليط الضوء على معاناة النساء المقدسيات، والمساهمة في دعمهن بحشد التفاعل العالمي لإسناد صمودهن، والإسهام في رفع الظلم الواقع عليهن. تبدأ حملة "كلنا مريم" العالمية في 28 يناير/ كانون الثاني الجاري، وتتواصل حتى الثامن من مارس/ آذار الذي يصادف يوم المرأة العالمي.
حرائر القدس عيون ساهرة تحمي المسجد الأقصى، وأنامل ناعمة تصد أشواك المعتدين على قبة الصخرة. هنّ سر صمود المدينة، وسند رجالها. مريم المقدسية، ومن خلفها القدس وأهلها، يستحقون التضامن معهم، ولو بكلمةٍ، وهذا أضعف الإيمان.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.