كفرزيتا.. مدينة تسكنني

مدينة تسكنني، خمس سنوات مرّت ومازال عبق الياسمين يحاصرني. أصوات الباعة الجوالين، وحديقتي الصغيرة في مدينتي التي تسكنني بكلّ تفاصيلها، بأشجار زيتونها التي حفظت أسماءنا، وملمس أيادينا، بحقول القمح التي تغطي ترابها الأحمر كعباءة خضراء، وكوشاح من ذهب، بطرقاتها التي كنت أمشي فوقها مرّة وتمشي بشراييني ألف مرة، ففي كلّ زاوية من زواياها لي حكاية.
محبّة أهلها وجرأتهم التي تخطر في بالي كلّ ليلة، ففي عام 1991 كان حدث من الأحداث التي لا تمحى من ذاكرة مدينتي، حيث أفرج عن السجناء السياسيين اللذين صلبوا في سجون النظام 14 عاماً لم يوقفهم خوفهم من مخابرات النظام، بأن يعيشوا الفرح بعودة أبناء مدينتهم، فتحت البيوت للتهاني، وذبحت الخراف. وفي كلّ بيت من بيوت المعتقلين، كان أهل المدينة ينتظرون الموكب القادم من مدينة مورك، وعند وصول المعتقل، كانت أصوات الرصاص تملأ السماء مختلطة مع زغاريد النسوة، حتى عناصر الشرطة لم يستطيعوا منعهم، بل شاركوهم الفرح، على عكس المدن الأخرى التي استقبلت معتقليها بخوف وحذر، ولم يذهب أحد ليبارك لأهل المعتقل بخروجه.
إنها مدينتي التي أحب. وفي زاوية أخرى من ذاكرتي، يسكن اليوم المشؤوم الذي غادرت فيه مدينتي التي عوقبت على احتضانها ثوار المدن المحيطة بها، وفتحت أبوابها لهم وانتفضت بكل من فيها من رجال ونساء وأطفال في وجه الظلم، أصبحت الطائرات لا تفارق سمائها، وكلّ مرّة تحمل معها الموت. كان اليوم الأصعب في حياتي، كنت أرتب ملابس بناتي، وأوّدع أثاث بيتي وذكرياتي، على أمل أني سأعود بعد شهر أو أقل، تركت نوافذ المنزل مفتوحة قليلاً ليدخل الهواء إلى المنزل، ونثرت القمح والخبز في حديقة المنزل للحمام والعصافير، ذرفت بناتي الدموع، وهن يصعدن السيارة وصبا تسأل عن ألعابها: كيف تنام وحدها من دوننا؟ وتحاول إقناعي بأن تأخدها معها. كبرت صبا، وتزوجت ابنتي الكبيرة، ولا زالت تحدّثني عن ألعابها التي ضاعت تفاصيلها تحت ركام منزلنا، مع صورنا المعلّقة على جدرانه، وثياب صبا التي لم تعد على مقاسها وإطارات صوّرنا التي ضاعت منها الصور. أصبح ذلك كله حطاماً، وحلم ابنتي البكر أن تخرج عروساً من بيتنا، خرجت عروساً من بيت ليس بيتنا وبلد ليس بلدنا مع زغاريد مخنوقة من أرواح تحلم بالعودة، فلكل البشر أوطان يعيشون بها، إلا نحن فلنا وطن يسكننا.