في حين تعلن اللوحة النحاسية على مدخل البناء الباريسي إسم الطبيب واختصاصه، تحفل اللوحات الدالة إلى الأطباء في سوريا بالسيرة الذاتية الكاملة يعرض فيها صاحبها إلى مجمل الشهادات والاختصاصات والمشافي والجمعيات التي خضع لدروسها أو حتى أنه مر بسيارته أمامها. ويكاد المرء يرتاب من هذا السرد الهائل ويراوده الشك في مصداقية النص خصوصاً إن تم إرفاقه برسم يُحدَّد من خلاله موضع الاختصاص مهما كان مُحرِجاً.. ولا يقتصر الأمر على الاطباء ليتحفنا المهندسون أيضاً بسيرهم الذاتية والمحامون بأنواع المحاكم التي يرافعون في جنباتها مضيفين إليها بعض الاختصاصات الجانبية في تسيير المعاملات وغيرها من الأمور..
وتسأل الأهل عن أبناءهم المغتربين فتجد أحدهم كبير علماء وكالة الفضاء الأميركية والآخر كبير مدراء الشركة الأتمتية الفلانية والآخر كبير جراحي ذاك المشفى ملكياً كان أم جمهورياً. قليلٌ جداً من الأهل يتواضع في وصف إمكانيات أو مراتب فلذات أكبادهم في المهجر لسببين رئيسيين: الأول، أنهم صرفوا شقاء السنين في سبيل تعليمهم وتوفير فرص النجاح لهم، والثاني، هو البعد الجغرافي الذي يجعل عملية التأكد من "الإعجاز" مستحيلة.
على الرغم من مرض المبالغة والتضخيم الذي عرفته وتعرفه مجتمعاتنا، إلا أنه من المُجحف ألا يُشار إلى النجاحات الهامة والبروز الشاهد على إمكانيات وقدرات متميّزة لدى الكثير من أبناء بلدنا سوريا في المهجر. وتبرز هذه النجاحات أكثر في إطار المأساة السورية ولجوء الملايين إلى مغادرة بيوتهم ووطنهم هرباً من العسف والاستبداد والقتل والتدمير من كل حدب وصوب. أولادهم يبرزون في المدارس بمعزلٍ عن تشويهات "المنظمات الشعبية" الأخلاقية والإنسانية وبعيداً عن النظام التلقيني السائد في بلدهم الأم. وكما استطاع السوريون، في حدود المعقول، أن يتنظّموا في جمعيات ساعدت القوانين الديمقراطية على سرعة قيامها وذلك من أجل دعم القادمين الجدد او لنشر الوعي بالمسألة السورية أمام الرأي العام الغربي أو لجمع التبرعات وإعانة المشاريع الإنسانية تربوية كانت أم صحية في بلدهم الأم. عانت هذه التجربة وما زالت من أمراض الممارسة المجتمعية التي حملوها معهم كالفردانية أو ضعف الثقة أو محبة البروز ولو على حساب القضية الأساس. لكن هذه السلبيات ليست مفاجئة لمن عاش فترة مصادرة المجال العام في سوريا طوال عقود وحرمان جيل بكامله على الأقل من أي معرفة بالعمل العام الجماعي المبني على المسؤولية الاجتماعية. وقد ساعدت الجاليات المتواجدة منذ فترة مناسبة في هذه البلاد على تطوير هذا الجانب من خلال ما اكتسبته من تجربة في المجتمع المدني الأوروبي.
السوريون في بلاد اللجوء يعيدون اكتشاف أنفسهم ومواطنيهم ويسعون، متعثرين أحياناً، إلى أن يكونوا مُميّزين في أداءهم وفي سمعتهم. سيكون لممارساتهم ونشاطاتهم في فترة انتظار الفرج الأثر الكبير في عملية إعادة بناء بلدهم إن هم عادوا يوماً إلى ربوعه المدمرة.