واستعر الخلاف مع انتهاء فترة حكم الرئيس السابق صدام حسين، عام 2003، الذي عمل على تعريب كركوك، تحت ذريعة "محو سياسة تعريب كركوك وإعادة السكان وتعويضهم"، فاحتدم الصراع عليها بين الأكراد والتركمان. ومع كتابة الدستور الجديد، تحولت المادة 140 فيه إلى عامل تفرقة أكثر من كونها عامل وحدة للعراقيين في كركوك وما جاورها. ونصّت المادة على معالجة قضية كركوك وباقي المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل بالاستفتاء الشعبي، وهو ما أطلق حمى التهجير والتوطين بين الأحزاب التركمانية والكردية والعربية، وقع السكان ضحية هذا الصراع.
وبعد استعادة القوات العراقية السيطرة على كركوك عقب محاولة إقليم كردستان الانفصال عن العراق وضم كركوك في سبتمبر/أيلول، وطرد القوات الكردية من المحافظة ومن إدارتها بالكامل، اتضح وجود عمليات توطين لأكراد ليسوا من كركوك وطرد عرب وتركمان، من المدينة تحت ذرائع مختلفة، من بينها أنهم لم يكونوا من سكان كركوك قبل عام 1950، أو أنهم باتوا خطراً أمنياً أو أنهم بعثيون ومزورون وغيرها من الحجج.
وقال مسؤولون عراقيون في بغداد إن "الصراع تجدد في كركوك بسبب أن الناس تريد حقها الذي نهبته الجهات الكردية خلال سيطرتها على كركوك والأحزاب تتحرك وفقاً لذلك". وأكد وزير عراقي: "في الفترة الحالية إن الكتل ككل لا تريد أن تغضب من بعضها البعض بسبب حاجة الكل للتحالف مع الكل وكركوك الآن ضحية هذه المصالح"، لافتاً إلى أن "جهات تركمانية باشرت بفعل ما فعله الأكراد قبل أربع سنوات بمساعدة عرب كركوك من القبائل السنية، التي تريد الانتقام من تجريف البشمركة مئات القرى العربية السنية بمحيط كركوك بحجة الحرب على داعش بأوامر من مسعود البارزاني".
وقدّر مراقبون المساحات التي تم التجاوز عليها من قبل الأكراد، بعشرات آلاف القطع السكنية الموزعة على الأكراد فقط داخل كركوك وفي ضواحيها، وبلغت قيمتها السوقية ملايين الدولارات، من بينها أراضٍ تابعة لشركة نفط الشمال، وهي الأراضي المحرمة لاحتوائها على احتياط هائل من النفط والغاز. وحددت على أنها محرّمة منذ عام 1968 ومنها مناطق شرورا وطريق كركوك – أربيل، ودانة وأطراف التون كوبري وقرى الدبس، في طريق مطار كركوك، حيث بُنيت قرى ومجمّعات سكنية لا تحصى، تحت حماية الأحزاب الكردية.
وما إن تدخل مقر شركة نفط الشمال (كبرى الشركات النفطية في منطقة عرفة شمال غربي كركوك)، وتحديداً من جهة ساحة السيوف الأربعة، تجد مقر الشركة يشطر إلى شطرين، شطر تابع للدوائر الحكومية للشركة، وهي دائرة العلاقات العامة والهيئة المدنية، والجهة المقابلة تسكنها عائلات كردية تتخذ من مقرات الشركة موقعاً للسكن منذ 2003.
وقبل ذلك، كان يسكن نحو ألف عائلة في ملعب كركوك الأولمبي، وجميعها من الأكراد، إلا أنّ تدخل الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني في الموضوع حسم خروجها من الملعب، وكذلك الحال على طريق أربيل – كركوك، وطريق كركوك – السليمانية، والأقضية والنواحي التي أنشئت فيها مئات من الأحياء السكنية للأكراد. وطيلة 15 عاماً، ظل هذا الملف بعيداً من التحقيق لأنّ الأراضي التابعة للحكومة مبيعة تحت مسميات التجاوز، أو الأراضي الزراعية. وهي بمساحات شاسعة موزّعة بين مركز المحافظة والأقضية والنواحي، ولكن في جميعها تقوم الأحزاب بإدارة هذا الملف.
ومنذ أسابيع، استعرت الحملة التي أطلق عليها بعض التركمان "تصفية الحساب"، بشكل دفع الأحزاب الكردية إلى تضمين هذه الحرب في مفاوضاتها مع الكتل الشيعية ببغداد حول تحالف الكتلة الكبرى التي من حقها تشكيل الحكومة، ومطالبة بوقفها وإعادة دخول البشمركة ونشرهم بكركوك لحماية الأحياء ذات الغالبية الكردية فيها.
وظهرت جماعات من التركمان الشيعة مسنودة من "الحشد الشعبي" وأطراف بالحكومة العراقية وقامت بدورها بالسيطرة على الأراضي في المحافظة، وقسّمتها لمجمّعات سكنية ومحال تجارية في قلب كركوك، ورُفعت عليها أعلام ورايات كتب عليها "لبيك يا حسين" و"هيهات منّا الذلة"، في محاولة لإثارة العاطفة الدينية والطائفية في المحافظة.
وعلى الرغم من تدخل قوات مكافحة الإرهاب، ومحاولتها رفع التجاوزات عن الأراضي في مناطق حي تسعين والخضراء وحي الواسطي، وساحة الاحتفالات، ومنظمة على طريق كركوك – تكريت في المدخل الجنوبي، وهي منطقة وزعتها الأحزاب على معارفها وأقاربها، إلا أنّ إدارة المحافظة لم تستطع إيجاد حل للأراضي التي سيطر عليها التركمان.
وبحسب أحد أعيان التركمان في كركوك رحمن أوغلو، فإن "التركمان تعرّضوا لتطهير أكثر من العرب في كركوك على يد الأكراد، وقاموا بتوزيع الأراضي والاستيلاء على آلاف الدونمات منها وقسموها وتم تحويلها إلى أحياء سكنية، كحي دور الفيلق، واليوم هي من أكبر أحياء كركوك، وحي شوراوا على طريق كركوك – السليمانية".
وتابع: "هناك أراض محرمة تابعة لشركة نفط الشمال، سيطر عليها الأكراد أيضاً وقاموا بإنشاء مجمّعات سكنية ومعامل وقرى، كما أنهم بنوا دوراً فوق أنابيب النفط، كما سيطروا على آلاف المساحات في أطراف كركوك وفي مركز المدينة". وأضاف: "التركمان يمتلكون طابو أسود (السند ملكية يعود للعهد العثماني) بهذه الأراضي، وعدنا الآن لها وطالبنا بمساندة وحماية من الحشد الشعبي لأن حكومة العبادي تنافق الأكراد ليتحالفوا معها".
مسؤول في دائرة بلدية كركوك قال إن "التركمان يريدون محو التغييرات التي أحدثها الأكراد خلال مدة وجودهم، ويوافقون على أن تعود كركوك إلى ما كانت عليه قبل سيطرة الأكراد ويرضون بالتحكيم". وأضاف أن "المشكلة أن الأكراد ولإضفاء شرعية، قامت بإسكان عرب مسيحيين بين المناطق الكردية الجديدة التي أنشأتها وهم الآن ضحية هذا الصراع". ولفت إلى أن "الأكراد سيطروا على مساحات بيضاء ووزعوها لمواطنين أكراد بأسعار رمزية، والتركمان يقولون هذه أراض لنا بالأصل، واعتُبرت محرمة بعد اكتشاف النفط فيها ويجب أن تبقى محرمة أو تعود لنا، لا أن يصادرها الأكراد".
وفي السياق، أبلغت قيادة شرطة محافظة كركوك الأسبوع الماضي، سكان في مناطق جوبليجة، وهنجيرة وباجوان بإخلاء منازلهم واجبارهم على ملء استمارة التعهد في محكمة كركوك، كونهم موجودين في مناطق تابعة للدولة وتحديداً وزارة النفط.
ويعود تاريخ النزاع على أراضي كركوك، بين العرب الأكراد والتركمان والمسيحيين، إلى عام 1968، بعد العثور على آبار النفط في مناطق عدة بكركوك. وتم ترحيل سكان تلك القرى بقرار من الحكومة العراقية آنذاك. وبعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 وما رافقه من متغيرات، ذكرت أحزاب كردية أنها "نزحت من أراضيها بفعل سياسة إقصاء من نظام صدام حسين"، وتمكنت من العودة إلى مناطق عدة بغطاء سلطة الاحتلال المؤقتة برئاسة بول بريمر، الذي رفض عودة العرب المسيحيين والمسلمين وكذلك التركمان أسوة بالأكراد.
وقال أحد أهالي قرية هنجيرة، سامان عبد القادر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "قوات الشرطة أبلغتنا بضرورة التوقيع على استمارة ترك منازلنا لأنّ المنطقة نفطية، وهي محرّمة، والبناء عليها غير شرعي، ويجب أن نتركها، على الرغم من أننا عدنا لها منذ عام 2003، وقمنا ببناء عشرات المنازل". وأضاف أنّ "التبليغ بالإخلاء طاول الأكراد فقط، ما يعني تهجير نحو 600 عائلة"، مشدداً على أنّ "كركوك هي للأكراد، وهي قدس كردستان وقلبها، ولا يمكن لنا أن نترك كركوك وأراضي أجدادنا".
من جهته، قال أحد العاملين في قطاع العقار والإسكان في كركوك، علي الجبوري لـ"العربي الجديد"، إنّ "مافيات الأحزاب الكردية كانوا يقومون ببيع وشراء أراض تعود إلى وزارة المالية أو البلدية، مقابل مبالغ مالية كبيرة"، مبيناً أنّ "هناك أراضيَ زراعية يقوم أصحابها بتقسيمها إلى مساحات بحجم 200 متر مربع، تباع الواحدة منها بحدود 25 مليون دينار عراقي (21 ألف دولار)، ومنها ما يصل إلى 40 مليون دينار (33.5 ألف دولار)".
وأكد أنّ "جميع هذه الأراضي في مركز محافظة كركوك، وفي أطراف المحافظة، لكن المشتري عندما يقوم بالبناء، يتم منعه من قبل مفارز الشرطة المحلية، إلّا في حال دفع لها رشى ومبالغ مالية"، مشيراً إلى أنّ "تلك الأحياء البسيطة تحولت إلى أحياء منظمة، وكأنها بنيت وفق مخطط مدروس، وجهّزت بالكهرباء والماء والخدمات، وأصبحت أحياء كاملة على أراض تابعة للحكومة، فالأحزاب الكردية انتهجت سياسة فرض الأمر الواقع وبنت تلك الأحياء".
ورأى النائب عن الجبهة التركمانية في كركوك، حسن توران، أنّ "النظام السابق استولى على أراضي التركمان في كركوك، ومناطق بشير والطوز ومناطق أخرى، وأنّ التركمان تفاءلوا بعد سقوط النظام خيراً، وحاولنا إعادة أراضينا بالطرق القانونية، لكن تلك الأراضي تعرّضت لاستهداف منظم لجهات تابعة لقومية واحدة، وبتواطؤ ولم تفلح الحكومة الاتحادية في بغداد في إعادتها لأصحابها".
من جهته، قال النائب الكردي، عن كركوك شوان الداوودي، إنّ "الأكراد تعرضوا لأسوأ موجة ترحيل في زمن البعث والحكومة السابقة، وقد دُمّرت أكثر من 800 قرية، في عمليات الأنفال"، مؤكداً أنّ "عودة الأكراد إلى قراهم حق مشروع، ولا يوجد أي تغيير ديمغرافي في تلك العودة، فتلك الأراضي هي أراض كردية". ولفت إلى أنّ "كركوك ذات غالبية كردية، ويعيش فيها التركمان والعرب وباقي القوميات، في ظل العيش المشترك وقبول الآخر".
بدورها، كشفت مصادر في محكمة كركوك لـ"العربي الجديد"، أن "عددا غير قليل من الأسر العربية المسيحية ستكون من بين الذين يشملهم قرار الترحيل". ووفقاً للمصادر، فإن "تلك الأسر من سكان كركوك الأصليين وقعوا ضحية ما يمكن اعتباره نصباً من قبل جهات كردية قبل سنوات حين قامت بإغرائهم في السكن بمناطق جديدة بكركوك وُزّعت غالبيتها العظمى على الأكراد. وبالفعل باعت منازلها القديمة وسكن بهذه المناطق واليوم تم اعتبارهم مستوطنين لا سكانا أصليين". وقال المحامي سرمد كركوكلي لـ"العربي الجديد"، إن "كل ما تحتاجه كركوك هو قاض إنساني لا يخضع لأي من الأحزاب العنصرية والقومية التي عاثت بالمدينة منذ 2003، فيصلح الفوضى ويترك السكان يعيشون حياتهم كما كانوا".