كردستان.. الدولة المستحيلة
وإذا أضفنا لهذا الانقسام محيطاً إقليمياً معادياً للدولة المنشودة، يصبح واضحاً أننا أمام حلم كردي يصعب تحقيقه، فالجوار لم تتوافق مصالحه يوماً في قضية كما توحدت في رفضه لقيام كيان كردي.
إلا أن الصفعة الأكثر إيلاماً للأكراد في "معركة الاستقلال" تمثلت في موقف الحليف الأميركي، فرغم تصدر الأكراد لقتال "داعش" تنفيذاً للرغبة الأميركية على مدار السنوات الثلاث الماضية إضافة لزهاء 14 عاماً من الانخراط في العملية السياسية التي فرضتها واشنطن بقيادة جورج بوش الابن آنذاك، لم يشفع كل هذا لهم، وهو درس يمكن أن يستخلص منه المراقب أن الرهان على أميركا خاسر، فلا صديق دائماً لسادة البيت الأبيض.
موقف الولايات المتحدة هذا مع الأكراد لا يبدو صادماً لمن يراجع تاريخ الخذلان الأميركي لهذه الأقلية، إذ يعود هذا التاريخ لأكثر من 26 عاماً إبان ما عرف بالانتفاضة الشعبية في العراق ضد نظام الرئيس السابق صدام حسين، حيث باع وقتها جورج بوش الأب الأكراد، وتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم، رغم ما أرسلته إدارته وقتها لهم من إشارات وتعهد بالحماية والدعم قبل أن تتركه يقمعهم ويقمع تلك الانتفاضة بأبشع أدوات القمع والتنكيل. وها هو التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى بإعلان ترامب حياده إزاء الأزمة الحالية في وقت كان البارزاني يتطلع لدعم أميركي وحماية توقف هجوم العبادي وتهديداته.
شعبياً، وبعيداً عن أخطاء الكرد في الرهان على الأميركان، فقد شكل إصرارهم، على استفزاز مشاعر العرب من خلال الحديث العلني عن علاقات وطيدة مع تل أبيب، سبباً أساسياً في فقدان تعاطف شريحة واسعة من الرأي العام العربي مع قضيتهم العادلة، إذ يصعب على العربي أن يمحو من ذاكرته مشاهد الأعلام الإسرائيلية التي رفرفت في الاستفتاء الأخير.
من جهتها، تحاول تل أبيب الظهور في صورة الدولة الداعمة لتطلعات الشعوب في الحرية والاستقلال، فيما الحقيقة أنها ترغب في شرعنة إقامة دول وكيانات على أساس عرقي وقومي وديني، لأن تقسيم المنطقة على هذا الشكل هو الضمانة الوحيدة للقبول بها وشرعنة وجودها كدولة يهودية. فقيام دول قومية وعرقية ودينية على ذات الأساس يشرعن وجودها، ويجعل منه أمراً طبيعياً كما يفتح الباب واسعاً لمزيد من تقسيم وتفتيت المنطقة على ذات الأسس والخلفيات وهو الأمر الذي تحاول إسرائيل الدفع باتجاهه في العراق وسورية.
يخلط الإخوة الأكراد بين حقهم في المواطنة والحكم الذاتي والذي يكفله لهم القانون الدولي، وكل الشرائع الدولية والأعراف الإنسانية والدينية وبين حق تقرير المصير بمعنى الاستقلال، فهذا الأمر يختص بالشعوب التي ترزح تحت الاحتلال والأكراد ليسوا محتلين.
وفي الوقت الذي يعلم فيه القاصي والداني حجم الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة العراقية، وتبعية نظامها لإيران، لا يبدو الانفصال الحل الأمثل ويمكن التدليل على هذا باستحضار آخر التجارب الانفصالية في الجوار وأقربها الدولة الفاشلة التي ولدت في جنوب السودان، حيث تبدو المقارنة مشروعة ومنطقية. إذن إن الجنوبيين قاتلوا من أجل إقامة دولتهم سنين طويلة، وتلقوا دعماً أميركياً، وتشجيعاً ودعماً إسرائيلياً، مصحوباً بوعود الرفاه، لكنهم استيقظوا على كابوس دولة فاشلة، تنخرها حروب أهلية داخلية أبشع من حربهم الطويلة مع نظام البشير، وبدلاً من الهجرة إلى الدولة الموعودة، بدأ "موسم الهجرة إلى الشمال".
حسب أحدث الإحصاءات يبلغ عدد الأكراد 30 إلى 40 مليون نسمة، يسكنون المنطقة الجبلية الممتدة على حدود العراق وسورية وتركيا وإيران وأرمينيا، وهم رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، علينا جميعاً أن نقر بأنهم أساس وركيزة في هذه المنطقة وجغرافيتها، وعلى العرب والترك والإيرانيين أن يقروا أن أنجع وصفة للتعامل معهم هو دمجهم وإشعارهم بأنهم مواطنون من الدرجة الأولى، والكف عن التعامل الأمني والمصلحي مع ملفهم، والذي ثبت فشله.
والأكراد مطالبون في المقابل بأن يتخلوا عن عقلية الانكفاء والانعزال، والكف عن التفكير بعقلية الأقلية الطارئة، فمن المتفهم أن تقلق الأقليات على مصيرها في بقعة جغرافية مجنونة كالتي نعيش، لكن من الضروري أيضاً ألا يستسلموا لهذا الأمر وألا يراهنوا على الخارج في مواجهته، بل يلجوا إلى حوار يفضي لحلول توافقية، بدلاً من الهرولة خلف حلم الدولة المستحيلة.