ينشر موقع "العربي الجديد" حلقات مترجمة من كتاب "أريغو ساكي.. كالتشيو توتالي"، تتناول حياة أسطورة التدريب، والذي لم يلعب الكرة بشكل احترافي خلال مسيرته، ونجح في قيادة العديد من الفرق إلى القمة في فترة الثمانينيات، في ما يلي الحلقة السادسة:
لتفهم الثورة التي قمت بها في الميلان يجب العودة قليلا للوراء. كانت حقبة السبعينيات صعبة بالنسبة لفريق الـ"روسونيري". كان الرئيس حينها هو فيليتشي كولومبو، المحبوب للغاية من قبل اللاعبين والمكروه من قبل الجماهير. لم تدم فرحة التتويج بلقب الدوري في 1978-1979 كثيرا. كان الأمر مثل ضوء نجمة هاربة.
في الموسم التالي كان الفريق يمر بوقت سيئ تحت قيادة ماسيمو جاكوميني، حينما وصلت شاحنات الشرطة لملاعب التدريب في 23 مارس/ آذار 1980، حيث ألقي القبض على بعض اللاعبين وأيضا فيليتشي كولومبو. كانت بداية التحقيقات التي أسفرت عن قضية "المراهنات الكروية". إنها صفحة قبيحة في تاريخ الكرة الإيطالية. بنهاية الموسم، ظهر تورط ميلان بصورة خطيرة في القضية وهبط لدوري الدرجة الثانية.
استمر تواجد الميلان في الدرجة الثانية عاما واحدا، موسم 1980-1981، حيث تمكن من الفوز بالبطولة والصعود مجددا للدرجة الأولى. بعد العودة لم تكن الأمور سهلة. النتائج لم تأت وتوترت العلاقة بين اللاعبين والمدرب، لذا قرر فيليتشي كولومبو إقالته وجلَبَ بدلا منه إيتالو جالبياتي، الذي أصبح لاحقا مساعدي وعنصرا هاما في فريقي الفني.
بعدها أقدم كولومبو على التخلي عن أسهمه لجايتانو موراتسوني وبعدها شخصية جدلية مثل جوزيبي فارينا الذي أصبح رئيسا للنادي. كانت بطولة 1982-1983 ملعونة بالنسبة لميلان، حيث انتهى الأمر بالهبوط للدرجة الثانية، هذه المرة ليس بسبب أي فضائح بل الأداء الرياضي البحت.
في الموسم التالي تمكن إيلاريو كاستانير من الصعود بالفريق مجددا للدرجة الأولى. كان ميلان تلك السنوات يمر بأزمة حقيقية وسط استياء من قبل الجمهور والمشجعين. بدون تخطيط ومع صفقات فاشلة، مثل لوثر بليست، الكارثي الذي اشتهر بإهدار الأهداف أكثر من تسجيلها.
وصلت الأمور لدرجة أن فارينا وكاستانير تعاركا بالأيدي بعدما وقع الأخير لإنتر قبل نهاية البطولة فأقاله الرئيس بمنتصف الموسم، ليأتي نيلس ليدهولم الذي تمكن في موسم 1984-1985 من احتلال المركز الخامس في الدوري والوصول لنهائي الكأس الذي خسره من سامبدوريا.
بعد سنوات من الغياب الأوروبي، عاد الميلان ليلعب في كأس اليويفا، ولكن كما يقول المثل "الأحلام ماتت فجرا"، حيث ودع الـ"روسونيري" البطولة بالخسارة من فاريجيم البلجيكي. ثارت الجماهير على فارينا. كانت لحظة صعبة أخرى خاصة بعدما عثرت وزارة المالية على مخالفات حسابية. كان النادي مدينا بالكثير من الأموال. استقال فارينا بعدما ذهب بالنادي إلى حافة الإفلاس، وبدلا من الصمت قال تصريحه الساخر الشهير "البابا المقدس سيكون رئيسا مثاليا للميلان".
برلسكوني
وصل روساريو لو فيردي بعد هذا الزلزال وتمكن من تحسين الوضع المأساوي بعض الشيء، ولكن ميلان في الحقيقة كان يبحث عن مالك جديد. كان سيلفيو برلسكوني مهتما بالشراء بعد أن أصبح واحدا من أكبر رجال الأعمال في المجال الإعلامي.
رأى في كرة القدم وميلان نقطة قوية يمكن إضافتها لمجموعته، وبجانب رجليه الموثوقين أدريانو غالياني وفيديلي كونفالونيري قام بشراء النادي. لم يكن هذا الأمر "صفقة مربحة" في رأي الكثيرين، فالميلان كان بعيدا عن المنافسات الأوروبية وتجلده الديون ودون مصداقية داخل أو خارج الملعب.
كان يجب على المالك الجديد القضاء على الكثير من الكوابيس، لذا بدأ برلسكوني في ضمان مجموعة من الأهداف، أهمها الأمن الاقتصادي وبث الحماس نحو مشروع جديد.
في عامه الأول، جدد برلسكوني الثقة في نيلس ليدهولم، ولكنه شعر بالندم بعد ذلك لأنه علم أنه يحق له أن يفعل ما تمليه عليه رغباته. كان برلسكوني يحب اكتشاف المواهب دائما، وعقب الهزيمتين اللتين تعرض لهما الميلان أمام بارما حينما كنت أدربه، أدرك أنه ربما أكون أنا المدرب الذي يبحث عنه، لأن فريقي كان يقدم في الملعب الكرة التي كان يحبها: مسلية وهجومية وممتعة ورائعة ودون خوف، بخلاف امتلاكي لأفكار جديدة.
الوصول
كانت مسألة وصولي لميلان كما جرت العادة، صعبة. كانت صدمة كبيرة بالنسبة للفريق. كان هناك انعدام ثقة ملحوظ. خطابي كان مختلفا. كنت أقول أشياء جديدة عن كرة القدم التي يعرفونها والعقلية التي يجب الاحتفاظ بها في الملعب بخلاف الخطط المختلفة لبرامج التدريب. في تلك الفترة كانوا ينظرون إليّ في إيطاليا كما لو كنت مهرطقا.
كان المعنيون بالكرة والصحافيون يعتبرونني لا أحد. مجرد شخص مهمش أو خصم يجب الإطاحة به، لأنه كان يضع قيادتهم ودورهم كملاك للمعرفة، تلك المعرفة القديمة والعتيقة، في خطر.
أتذكر أن أحدهم سألني ذات مرة: "كيف يمكنك تدريب لاعبين على أعلى مستوى دون أن تكون نفسك واحدا منهم؟". إجابتي كانت بسيطة، حيث قلت له "لم أعرف أبدا أنه لكي تصبح فارسا فإنك في حياتك السابقة كان يجب أن تكون حصانا".
كانت الكثير من الأموال تنفق في إيطاليا على لاعبين كبار، ولكن لاحقا كان الخصوم هم من يتحكمون في اللاعب. كان أمرا سخيفا وبلا معنى. كنت أراهن على اللاعبين الشباب الإيطاليين المنفتحين القادرين على التعبير عن كرة القدم التي أرغب فيها.
الثورة
قال لي برلسكوني "أرغب في جعل ميلان أقوى فريق في العالم". طريقة عمله كانت تعكس هذا. كنت ورثت من ليدهولم فريقا يمتلك لاعبين جيدين، ولكن لم يكن جميعهم لديهم القدرة على التعبير عن كرة القدم التي أرغب في تقديمها.
كانت المهارات الفردية هي وسيلة تحقيق الفوز غالبا في إيطاليا. تصرف عبقري من قبل لاعب والرهان على المرتدات. للأسف لا تزال هذه هي العقلية القائمة. نحن عموما بلد جاهل لا يعرف شيئا، وإذا ما عرف شيئا، يربطه بالماضي. في إيطاليا كل ما هو حديث يسبب صدمة. أنا كنت أنجذب لكل ما هو جديد خاصة في المجال التكتيكي.
كنت أرغب في نقل قناعاتي فورا للاعبين على الرغم من أنها كانت خارج القوانين المتعارف عليها بينهم. على سبيل المثال كنت أرغب في جعلهم يرون أنه يجب عليهم الهجوم من أجل الدفاع. لا يجب عليهم التكتل في الخلف. كان يجب أن أعلمهم هذه الطريقة المختلفة في اللعب. أتحدث عن عقلية أخرى قائمة على التعاون ومنظومة تختلف عن النمط التقليدي الإيطالي.
بعد شهرين من العمل، طلبت من برلسكوني أن نتحدث على انفراد وقلت له "هنا من يحلم هو أنت وأنا فقط. علينا نقل هذا الحلم للاعبين، وإلا فإن المشكلة ستظل قائمة". كنت أرغب في أن ينقل النادي قناعاته للاعبين.
قبل انطلاق الموسم كنت أجلس في منزل برلسكوني وتلقى مكالمة هاتفية من شيزاري روميتي الذي كان حينها إداريا كبيرا في (فيات) وشخصا مقربا للغاية من يوفنتوس. بعد أن أنهى المكالمة قال لي الرئيس "أخبرني بأن المحامي (جياني أنجيللي) يطلب مني الابتعاد عن ذلك اللاعب الذي يهمنا".
كان برلسكوني لا يزال مستجدا في عالم الكرة وبعيدا كل البعد عن عائلة أنجيللي ويوفنتوس فهما كانا أشبه بتاريخ كرة القدم الإيطالية. أتذكر أنني ضغطت عليه كثيرا بل وربما جرحته وقلت له "إذا ما كان يجب علينا أن نصبح أقوى فريق في العالم فلا يجب أن نترك خياراتنا الأولى للآخرين. لا يمكننا الرضوخ لضغوط من أندية أخرى".
تغير وجه برلسكوني. شعر باستياء كبير بعد أن تفهّم الأمر. أمسك هاتفه واتصل بروميتي فورا وقال له "لا تسمح لنفسك بإجراء مكالمة مشابهة لهذه مجددا". كانت طريقة لجعل الأندية الأخرى تفهم أنه ليس دخيلا على أندية الدرجة الأولى بل يرغب في أن يكون بطلا. كان يوفنتوس يرانا كناد أقل درجة منهم، فهم "السيدة العجوز"! لذا كان يجب علينا أن نبرز لهم مشاعرنا بالفخر والاعتزاز.
في الوقت نفسه كان النادي قد تمكن من شراء اثنين من اللاعبين الهولنديين. شاهدنا رود خوليت كليبرو. كانوا يلعبون في هولندا بهذه الطريقة: اثنان للمراقبة وليبرو؛ اللاعب الذي يفعل كل شيء ويذهب حيثما يشاء. اشتريناه من بي إس في إيندهوفين، ولكنه بالنسبة لي لم يكن ليبرو. كانت لديه قوة بدنية كبيرة وقدرة على التسديد والركض بسرعة. كان مهاجما مثاليا. دفعنا ثلاثة ملايين ليرة للحصول عليه.
جلب النادي أيضا ماركو فان باستن، الذي كان عقده مع أياكس ينتهي. أناقته وعبقريته وموهبته في الملعب وأهدافه المستحيلة كلها كانت ضمانا جيدا. أنهينا صفقة ضم أنجيلو كولومبو التي لم يكن برلسكوني يثق بها كثيرا لدرجة أنه قال لي "ساكي لا يمكنني دفع هذا المبلغ في لاعب يدعى كولومبو. من هو أساسا؟"، فأجبته "نحن نسعى لضم لاعبين مفيدين". بعدها بثلاث سنوات رفض برلسكوني عروضا كثيرة لبيع كولومبو الذي كان من أهم القطع الاستراتيجية في طريقة لعبنا.
ذهبت مجددا لبرلسكوني وقلت له "اجلب لي أنشيلوتي، إذا ما فعلت هذا أضمن لك الفوز بالبطولة". كان أنشيلوتي يعاني حينها من إصابة في الركبة ولكن المهم بالنسبة لي أن عقله كان يعمل بصورة جيدة. كان محترفا ويقدم كل ما لديه. مثال جيد بالنسبة للجميع. اتصل بي غالياني يوم الجمعة ليلا وأخبرني بأنهم توصلوا لاتفاق مع روما وإذا ما وافق برلسكوني فمن الممكن إنهاء الأمر.
كان سوق الانتقالات من المقرر أن يغلق منتصف ظهر السبت. كانت الفرصة الأخيرة. هاتفت برلسكوني ودار بيننا هذا الحوار:
- "اجلب أنشيلوتي. إنه لاعب كبير ومحترف نموذجي وفتى استثنائي".
- "كيف يمكنني شراء لاعب يمكنه لعب 80% من الفرص المحتملة؟".
- "وأين توجد المشكلة؟".
- "في الركبة!".
- "الركبة لا تقلقني. ما يهمني هو إذا ما كانت لديه مشكلة في عقله".
بهذه الطريقة أقنعته وقمنا بشراء أنشيلوتي. بعد ثلاثة أو أربعة أشهر لم يكن برلسكوني راضيا عن الصفقة، وقال لي "أنت رغبت في مدير أوركسترا لا يعرف شيئا عن الموسيقى". تحدثت مع كارلو ونقلت له كلمات الرئيس وسألني "ماذا يجب أن نفعل؟"، فأجبته "يجب أن تأخذ دروسا خاصة. فلتأت قبل موعد المران وتتدرب مع الشباب".
كنت تعاقدت معه ليلعب كلاعب وسط أمام باريزي وخلف خوليت. بدأ كارلو بكل تواضع وتضحية في هضم طريقة اللعب التي كنت أرغب أن يقدمها في الملعب بخلاف خوضه تدريبات إضافية مع الشباب.
كان من ضمن الأمور الأخرى الهامة تشكيل لجنة من المدربين والأطباء النفسيين والإعلاميين. قضينا أربعة أيام مع الإدارة في كومو لصقل المجموعة وخلق حالة من التجانس. الأمور كانت مثالية.
كانت أول مباراة لي على مقاعد الإدارة الفنية مع الميلان ودية في الثاني من أغسطس/ آب 1987 أمام سولبياتيزي وفزنا بسباعية نظيفة. أتذكرها جيدا على الرغم من أنها كانت أشبه بتدريب.
لنتحدث عن التدريبات. كان الصحافيون يرون كل ما نفعله كأمر غريب وجديد. كانت التدريبات تسعى لصقل الجانبين النفسي والفني للاعبين وتتطلب التفكير من جانب كل لاعب بشكل يعمل على زيادة الانتباه والتركيز.
منذ اليوم الأول كنت أسعى لنقل ما لدي. يقول مايكل أنجلو إن اللوحات ترسم بالعقل وليس باليد. أنا مؤمن بأن كرة القدم تلعب بالعقل أيضا. الأقدام مجرد وسيلة. إذا ما كنت تتمتع بفنيات مرتفعة ولكن تنقصك القدرة على تفسير الأمور والمنطق فإنك ستمرر الكرة للأمام حينما يجب أن تمررها للخلف أو ستحتفظ بالكرة حينما يجب عليك تمريرها من لمسة واحدة. الفنيات لا تكفي. هي عنصر وظيفي أساسي، ولكن وحدها ليست كافية.
كل هذه الأمور كانت بمثابة موسيقى جديدة على مسامع اللاعبين الذين لم يكونوا معتادين على هذا الحمل من العمل الأسبوعي، ولكن هذه كانت الطريقة الوحيدة لجعلهم يفهمون هذه الطريقة الجديدة الجميلة للعب كرة القدم. يقول كارلو أنشيلوتي عن هذه الفترة "كان ساكي مصرا للغاية. كان مقتنعا كثيرا بأفكاره وأقنعنا بها في النهاية".
كنت أتحدث كثيرا مع اللاعبين وأمر عليهم ليلا لأتحدث معهم وأنقل إليهم أفكاراً ولأرى إذا ما كانت كل الأمور منظمة. جعلت لاعبي كل خط ينامون معا لأنني كنت أرغب أن يكون التجانس والصداقة بينهم داخل وخارج الملعب. البعض اتهمني بالتدخل الزائد عن الحد. ربما يمكنني قبول هذا الأمر ولكن فلننظر للنتائج: تقريبا في كل عام من بعد أول دوري كان هناك خمسة أو ستة لاعبين من الفريق مرشحين للكرة الذهبية.
من انتقدوني قالوا إنني كنت أتسبب في استهلاك مخزون اللاعبين، ولكن باستثناء فان باستن الذي كان يعاني من مشاكل في الكاحل، فإن بقية اللاعبين وصلوا في الملاعب لمراحل عمرية تراوح بين 34 وحتى 40 عاما. فان باستن نفسه فاز معي بالكرة الذهبية مرتين، وكانت المرة الوحيدة التي توج فيها خوليت بالجائزة معي.