الخامس من يونيو/حزيران، ليس تاريخا عاديا في روزنامة العرب، إنه تذكير دائم بيوم بداية زلزال هز المنطقة من أقصاها إلى أدناها، ووضع أقصاها تحت رحمة المستوطن الإسرائيلي، وأضاع أغلب الأراضي الفلسطينية، لتصبح فلسطين بأكملها محتلة.
هز زلزال هزيمة الجيوش العربية في عام 1967 المنطقة وأعاد رسم خريطتها؛ الجغرافية.. والسياسية كذلك.
وأصابت توابع الزلزال عالم الأدب، فعجز بعضهم عن التعبير عنه، مثل صلاح جاهين الذي تحول من التغني بإنجازات اشتراكية جمال عبدالناصر إلى كتابة الأغاني الخفيفة بعد هزيمة 67 التي اصطلح عربيا على تسميتها بـ"النكسة".
استجابة مختلفة
كانت استجابة شباب الأدباء -في ذلك الوقت- لهذا الزلزال مختلفة، فقد أثارت لدى الكثير منهم أكثر قليلا من الغضب أو الاكتئاب؛ أثارت تساؤلات حول الواقع وفساده ومشكلاته التي قادت نحو الهزيمة.
واقترب العديد من الأدباء العرب من هذه الهزيمة بمقادير مختلفة، فتناولها بصورة مباشرة الأديب الفلسطيني إميل حبيبي في مجموعته القصصية "سداسية الأيام الستة"، والمصري إبراهيم عبد المجيد في روايته "في الصيف السابع والستين".
لكن العديد من الأدباء العرب كتبوا عن الهزيمة/النكسة وتبعاتها كخلفية لأعمالهم التي تحدثت عن الوطن ومآسيه، عن تفاصيل حياة الجنود، وليس عن المعارك.
ومن بين هؤلاء كتب المصري يوسف القعيد روايته "الحرب في بر مصر"، والتي تبدأ أحداثها في يونيو/ حزيران كذلك، ولكنه يونيو/حزيران 1973، وتنتهي بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولكن نهايتها لا تحمل للقارئ فرحة انتصار كما يمكن أن تتوقع، بل تحمل مرارة انتصار الفساد والظلم على الجندي ابن الفلاح وعلى الفلاح نفسه.
يقدم القعيد روايته على لسان ستة من شخصياتها، هم العمدة والمتعهد والخفير والجندي والضابط والمحقق، معطيا دفعة لتطور تقنية الكتابة الروائية العربية (صدرت الرواية عام 1978) لنسمع أجزاء مختلفة للقصة من رواة مختلفين، يحملون وجهات نظر مختلفة لنفس الحدث.
وفي الرواية يسعى عمدة قرية في ريف مصر أن يساعد ابنه الأصغر للتهرب من التجنيد، كما ساعد كل أبنائه الأكبر سنا، ولا يجد طريقا لذلك سوى أن ينتحل ابن خفير لديه اسم ابن العمدة ويذهب للخدمة في الجيش مكان الأخير.
يسمي يوسف القعيد بطل روايته "مصري"، سعيا إلى إضفاء بعد رمزي على الشاب، يجعله ممثلا لكل أبناء البلد، ويقول عنه: "مصري كان شابا ينضج بأشواق؛ فيه الكثير من تناقضات بلدنا، حب الدنيا والزهد فيها، الجرأة والخجل، الخوف والشجاعة، الواجهة المسالمة والباطن المتفجر بالثورة والتمرد".
وكأن القعيد يتحدث عن شاب من شباب ميدان التحرير، وكأنه يرسم صورة لشاب من مئات الشباب الذين عرفناهم في ميادين مصر خلال السنوات التي تلت ثورة يناير/كانون الثاني، بل وكأن القعيد يناقش القضايا التي نناقشها اليوم، فيقول مثلا "لا أحب التعرض لمسألة الوطن والوطنية. كلنا نحب مصر؛ كل يحبها بطريقته الخاصة، ولكن أي مصر هذه التي نحبها، مصر الذين يموتون من الجوع أم مصر الذين يموتون من التخمة؟".
يعرض القعيد في روايته سريعا لموت الشاب "مصري" على الجبهة، وهو مازال يحمل اسم ابن العمدة، ومحاولة سلسلة من الشبان إرجاع جثمان الشهيد لأهله الحقيقيين.
يظهر هؤلاء الشباب على امتداد الرواية، وهم جندي زميل للشهيد وضابط مكلف بتسليم جثته لأهله ووكيل نيابة تقع القرية التي تعد مسقط رأس الشهيد ضمن زمام عمله، وتستمر محاولاتهم حتى الصفحات الأخيرة من الرواية.
ونسمع على ألسنتهم كلمات ما زالت تنطبق على الواقع بعد نحو أربعين عاما تقريبا على كتابة الرواية، فنسمع الجندي يقول "إن الدرس الذي تعلمته اليوم جيدا؛ أن بلدنا أصبحت مثل القطط تأكل أبناءها بلا رحمة".
ونقرأ في موضع آخر من الرواية على لسانه "وجهنا كل الجهد نحو العدو الظاهر الواضح. وتركنا الأعداء السرطانية الخبيثة (يشير إلى الفقر والجهل والفساد)... كان لنا العذر، تصورنا أن أهلنا سيقومون بتلك المهمة بدلا منا، ولكنهم خيبوا ظننا".
نموذجان نقيضان
تهيمن على الرواية شخصيتان تكاد تكونان متناقضتين؛ الشاب "مصري"؛ الذي يتحدث قليلا ولكن الكاتب يجعله رمزا للاجتهاد والتضحية، الاجتهاد في دراسته ثم عمله في أرض أسرته، ثم التضحية من أجل هذه الأسرة –كان دخول مصري الجيش بدلا من ابن العمدة صفقة عقدها أبوه مقابل منافع مادية للأسرة الفقيرة- وأخيرا التضحية على جبهة الحرب من أجل الوطن.
الشخصية الثانية هي العمدة، الذي يقدمه المؤلف عنينا غير قادر على إخصاب العالم مرة أخرى بمزيد من الشباب، لكنه ما زال قادرا على بذل الوعود التي يخلفها طوال الرواية، ومازال نافذا عبر شبكات الفساد الصغيرة والكبيرة.
وهذه الأخيرة (شبكات الفساد الكبيرة) تظهر في نهاية الرواية لتحمي العمدة، وتغلق ملف القضية، فيتدخل "الحاكم العسكري" لعرقلة التحقيق في الموضوع بحجة أن "بلادنا تمر بفترة مصيرية حاسمة"، ويتدخل مأمور المركز ليسهم بدوره في إغلاق الموضوع عبر إخفاء الجثة، وأخيرا يتدخل المسؤول الكبير، الذي يبدو ذا منصب رفيع في وزارة "العدل"، ليأمر وكيل النيابة بنسيان الموضوع وإغلاق التحقيق.
المثير للاهتمام أن كاتب الرواية يقترب في مواقفه الآن من النموذج الثاني، ويدافع عن نظام الحكم الحالي باسم "مصر"، دون أن يسأل نفسه كما سألت الرواية "أي مصر هذه التي نحبها؟".
الحقيقة إن رواية "الحرب في بر مصر" ما زالت حتى اليوم تعبر عن واقع البلاد بعد عشرات السنين من كتابتها، وما زالت بعض كلماتها تصلح دستورا لشباب اليوم، خاصة قول الجندي "من قال إن الحق له قيمة في مواجهة القوة! الحق بمفرده عاجز. بندقية توجه طلقاتها للخلف، إلى صدر ممسكها".
(مصر)
هز زلزال هزيمة الجيوش العربية في عام 1967 المنطقة وأعاد رسم خريطتها؛ الجغرافية.. والسياسية كذلك.
وأصابت توابع الزلزال عالم الأدب، فعجز بعضهم عن التعبير عنه، مثل صلاح جاهين الذي تحول من التغني بإنجازات اشتراكية جمال عبدالناصر إلى كتابة الأغاني الخفيفة بعد هزيمة 67 التي اصطلح عربيا على تسميتها بـ"النكسة".
استجابة مختلفة
كانت استجابة شباب الأدباء -في ذلك الوقت- لهذا الزلزال مختلفة، فقد أثارت لدى الكثير منهم أكثر قليلا من الغضب أو الاكتئاب؛ أثارت تساؤلات حول الواقع وفساده ومشكلاته التي قادت نحو الهزيمة.
واقترب العديد من الأدباء العرب من هذه الهزيمة بمقادير مختلفة، فتناولها بصورة مباشرة الأديب الفلسطيني إميل حبيبي في مجموعته القصصية "سداسية الأيام الستة"، والمصري إبراهيم عبد المجيد في روايته "في الصيف السابع والستين".
لكن العديد من الأدباء العرب كتبوا عن الهزيمة/النكسة وتبعاتها كخلفية لأعمالهم التي تحدثت عن الوطن ومآسيه، عن تفاصيل حياة الجنود، وليس عن المعارك.
ومن بين هؤلاء كتب المصري يوسف القعيد روايته "الحرب في بر مصر"، والتي تبدأ أحداثها في يونيو/ حزيران كذلك، ولكنه يونيو/حزيران 1973، وتنتهي بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ولكن نهايتها لا تحمل للقارئ فرحة انتصار كما يمكن أن تتوقع، بل تحمل مرارة انتصار الفساد والظلم على الجندي ابن الفلاح وعلى الفلاح نفسه.
يقدم القعيد روايته على لسان ستة من شخصياتها، هم العمدة والمتعهد والخفير والجندي والضابط والمحقق، معطيا دفعة لتطور تقنية الكتابة الروائية العربية (صدرت الرواية عام 1978) لنسمع أجزاء مختلفة للقصة من رواة مختلفين، يحملون وجهات نظر مختلفة لنفس الحدث.
وفي الرواية يسعى عمدة قرية في ريف مصر أن يساعد ابنه الأصغر للتهرب من التجنيد، كما ساعد كل أبنائه الأكبر سنا، ولا يجد طريقا لذلك سوى أن ينتحل ابن خفير لديه اسم ابن العمدة ويذهب للخدمة في الجيش مكان الأخير.
يسمي يوسف القعيد بطل روايته "مصري"، سعيا إلى إضفاء بعد رمزي على الشاب، يجعله ممثلا لكل أبناء البلد، ويقول عنه: "مصري كان شابا ينضج بأشواق؛ فيه الكثير من تناقضات بلدنا، حب الدنيا والزهد فيها، الجرأة والخجل، الخوف والشجاعة، الواجهة المسالمة والباطن المتفجر بالثورة والتمرد".
وكأن القعيد يتحدث عن شاب من شباب ميدان التحرير، وكأنه يرسم صورة لشاب من مئات الشباب الذين عرفناهم في ميادين مصر خلال السنوات التي تلت ثورة يناير/كانون الثاني، بل وكأن القعيد يناقش القضايا التي نناقشها اليوم، فيقول مثلا "لا أحب التعرض لمسألة الوطن والوطنية. كلنا نحب مصر؛ كل يحبها بطريقته الخاصة، ولكن أي مصر هذه التي نحبها، مصر الذين يموتون من الجوع أم مصر الذين يموتون من التخمة؟".
يعرض القعيد في روايته سريعا لموت الشاب "مصري" على الجبهة، وهو مازال يحمل اسم ابن العمدة، ومحاولة سلسلة من الشبان إرجاع جثمان الشهيد لأهله الحقيقيين.
يظهر هؤلاء الشباب على امتداد الرواية، وهم جندي زميل للشهيد وضابط مكلف بتسليم جثته لأهله ووكيل نيابة تقع القرية التي تعد مسقط رأس الشهيد ضمن زمام عمله، وتستمر محاولاتهم حتى الصفحات الأخيرة من الرواية.
ونسمع على ألسنتهم كلمات ما زالت تنطبق على الواقع بعد نحو أربعين عاما تقريبا على كتابة الرواية، فنسمع الجندي يقول "إن الدرس الذي تعلمته اليوم جيدا؛ أن بلدنا أصبحت مثل القطط تأكل أبناءها بلا رحمة".
ونقرأ في موضع آخر من الرواية على لسانه "وجهنا كل الجهد نحو العدو الظاهر الواضح. وتركنا الأعداء السرطانية الخبيثة (يشير إلى الفقر والجهل والفساد)... كان لنا العذر، تصورنا أن أهلنا سيقومون بتلك المهمة بدلا منا، ولكنهم خيبوا ظننا".
نموذجان نقيضان
تهيمن على الرواية شخصيتان تكاد تكونان متناقضتين؛ الشاب "مصري"؛ الذي يتحدث قليلا ولكن الكاتب يجعله رمزا للاجتهاد والتضحية، الاجتهاد في دراسته ثم عمله في أرض أسرته، ثم التضحية من أجل هذه الأسرة –كان دخول مصري الجيش بدلا من ابن العمدة صفقة عقدها أبوه مقابل منافع مادية للأسرة الفقيرة- وأخيرا التضحية على جبهة الحرب من أجل الوطن.
الشخصية الثانية هي العمدة، الذي يقدمه المؤلف عنينا غير قادر على إخصاب العالم مرة أخرى بمزيد من الشباب، لكنه ما زال قادرا على بذل الوعود التي يخلفها طوال الرواية، ومازال نافذا عبر شبكات الفساد الصغيرة والكبيرة.
وهذه الأخيرة (شبكات الفساد الكبيرة) تظهر في نهاية الرواية لتحمي العمدة، وتغلق ملف القضية، فيتدخل "الحاكم العسكري" لعرقلة التحقيق في الموضوع بحجة أن "بلادنا تمر بفترة مصيرية حاسمة"، ويتدخل مأمور المركز ليسهم بدوره في إغلاق الموضوع عبر إخفاء الجثة، وأخيرا يتدخل المسؤول الكبير، الذي يبدو ذا منصب رفيع في وزارة "العدل"، ليأمر وكيل النيابة بنسيان الموضوع وإغلاق التحقيق.
المثير للاهتمام أن كاتب الرواية يقترب في مواقفه الآن من النموذج الثاني، ويدافع عن نظام الحكم الحالي باسم "مصر"، دون أن يسأل نفسه كما سألت الرواية "أي مصر هذه التي نحبها؟".
الحقيقة إن رواية "الحرب في بر مصر" ما زالت حتى اليوم تعبر عن واقع البلاد بعد عشرات السنين من كتابتها، وما زالت بعض كلماتها تصلح دستورا لشباب اليوم، خاصة قول الجندي "من قال إن الحق له قيمة في مواجهة القوة! الحق بمفرده عاجز. بندقية توجه طلقاتها للخلف، إلى صدر ممسكها".
(مصر)