كانط في وجه النسبوية الثقافوية

30 ابريل 2020
أنسيلم كيفر/ ألمانيا
+ الخط -

في كتابه "أسس ميتافيزيا الأخلاق"، يُؤسّس الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانط (1724 - 1804) لنظام أخلاقيّ متكامل، واضح فيه من أين تنبع الأخلاق، وأين ستصبّ. يسمّي كانط هذا العالم أخلاقَ "الأوامر القطعيَّة" أو بلغة كانط الألمانيّة Kategorische Imperativ.

تتحقّق الأخلاق لدى كانط، عندما يتصرّف كلّ فرد، تحت هاجس أنّ نتائج سلوكه الفرديّ (Maxime)، ستتحوّل إلى قانون أخلاقي كونيّ، سيطبّق على كلّ البشر. الأخلاق لدى كانط، هي الهاجس قبل إحداث الفعل والتصرّف، أي مرحلةُ النيّة والدافع وتحسّس ما يسميه "الإرادة الخيّرة". الدافع قبيل الفعل، هو العنصر الحاسم في تقييم الفعل وحكمه أخلاقيّاً، وليست نتيجة الفعل نفسه.

وهذا ما يتناقض تماماً من النظرية النفعيّة، ومؤسّسها الفيلسوفجون ستيوارت ميل (1806-1873) الذي يبني عالمه على فرضية معاكسة بالمطلق لفرضية كانط، وهي أنّ دافع الفعل ليس مهماً على الإطلاق، ولا يؤدي دوراً في تقييم الفعل أخلاقيّاً، بل الفيصَل هو نتيجة الفعل نفسها. عند جون ستيوارت ميل، إذا ما كان أحدهم يغرق في البحر، لا يهمّ إن كان من سينقذه مُجرد منقذٍ يعمل على الشاطئ ويتقاضى أجراً من الدولة وسُيحاسَب إن غرق إحدهم، أو فاعل خيرٍ عابر. المهم في الفلسفة النفعية، نتيجة الفعل نفسه، لا دافع الفاعل.

الأخلاق في مدرسة كانط، تنبعُ من الفرد وتصبّ في الخارج. الأخلاق عند جون ستيوارت ميل، تنبع من الخارج وتصبّ في الفرد. يشعُّ الفرد عند كانط كعنصر يمتلكُ عقلاً ووكالة على نفسه، ومسؤوليّة في قراراته. وتبرز نتيجة الفعل وحدها عند ستيوارت ميل كعامل حاسم في الحكم الأخلاقيّ، ولأنّ النتيجة دوماً تقع خارج الفرد، ولها طابع جماعي، تصبح الأخلاق شأناً عاماً مرتبطاً بالمجتمع والسياسة وأحوالهما. وفعلاً هذا التفريق، يشرحُ تأثير المدرستين. فكانط أثّر كثيراً في التشريع ووَضْع القوانين وآليات الإدانة بفلسفته التي توضّح دور الفرد ومسؤوليته. وجون ستيوارت ميل حوّل الأخلاق إلى شأن عام، وهو طبعاً من آباء الليبراليّة.

ولشرح معالم الطريق بين المنبع والمصب في مفهوم "الأوامر القطعية"، يحدد مجموعة من الأسئلة الفاحصة التي يجب أن تُطرَح على السلوك الفرديّ، لتتوضّح إمكانية أو عدم إمكانيّة تحوّله إلى قانون كوني عام للجميع. والمعيار الذي يحدد ذلك هو شيء واحد فقط عند كانط: الكرامة البشريّة. الكرامة البشريّة هي فقط التي تحدد إذا ما كان الفعل الأخلاقي مقبولاً أو مرفوضاً. فالسرقة مثلاً، إذا تحوّلت إلى قانون أخلاقي كوني مبرّر، سينشأ مجتمع وحشي معدوم الكرامة الإنسانية، لا يقبل حتى أي لصّ أن يعيش فيه.

لا تشتق الأخلاق لدى كانط من الثقافة ولا من العرق ولا من الطبقة، بل حتّى يرفض اشتقاقها من العقل نفسه. المثير في فلسفة كانط، أنّ العقل حرُّ، لكن ضمن فضاء "الأوامر القطعية" التي هي فوق العقل. وليست "الأوامر القطعية" تحت سلطة العقل. ولتوضيح هذا الأمر، يأتي بمثال الانتحار، ويشرحه كفعل أخلاقي يتنافى مع الكرامة البشريّة، ولكن من الممكن أن يكون أحيانًا فعلاً عقلانياً ذاتياً واعياً، هذا يحصل. كانط هو أكبر مدين للانتحار في الفلسفة، وفعلياً يراه شيئاً متعارضاً مع ما يسميه "ناموس الطبيعة". ويدرج كانط الانتحار كأول أمرٍ من "الأوامر القطعية" التي يجب أن تكون فوق سلطة العقل نفسه.

في السنوات الأخيرة، جرى إحياء مفهوم "الأوامر القطعية" من جديد، في ظلّ هيمنة تيارات النسبوية الثقافوية، وخصوصاً في أجواء اليسار الليبرالي في الولايات المتحدة الأميركيّة وأوروبا، التي تعتقد (طبعاً مع درجات متفاوتة من التطرّف) بأنّ كل جماعة لها الحق بإنتاج قيمها الأخلاقية الخاصة التي يجب أن تُحترَم، وذلك كجزء من "التعددية الثقافية".

هذه "الخصخصة" للأخلاق، وإلغاء الطابع الكوني فيها، شيء مرفوض بشكل مطلق في فلسفة كانط، وتتناقض معها. صيرورة التحقّق من الفعل عند كانط هي من الفرد إلى الخارج، من النسبي إلى الكوني، وبالتالي ما هو موجود في الكوني، خالٍ تماماً من أخطاء النسبية حتى وصل إلى هناك، ولا يمكن أن يقبل النسبية. بسبب هذه المثالية، تُسمى "المثاليةَ الألمانية".


* كاتب من سورية

دلالات
المساهمون