في طبعة جديدة، صادرة عن "دار ممدوح عدوان"، لكتابه "تقرير إلى غريكو"، يعود الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكس (1883-1957) إلى الحياة مجدداً في أجواء الثقافة العربية عبر كتاب يومياته الذي كتبه في سنوات مرضه الأخيرة بعد أن أوشكت الشمس على المغيب على حد تعبيره.
الكتاب الذي ترجمه الراحل ممدوح عدوان كان قد صدر بجزئيه بين عامي 1980 و1983. وغريكو هذا الذي يتوجّه إليه التقرير هو الرسام الكريتي دومينوكوس ثيوتوكوبولس (1541-1614) المعروف لدى الإسبان الذين أقام بينهم ورسم لوحاته في مقر إقامته في طليطلة باسم "إلغريكو".
أما لماذا يوجّه كازانتزاكس تقريره إلى هذا الكريتي بالذات، فلأنه، كما يقول في مستهل يومياته "معجون من التربة الكريتية ذاتها التي عجنتُ أنا منها، وهو قادر على فهمي أكثر من مكافحي الماضي والحاضر كلهم"، ولأنه خلّف آثار دمه الحمراء نفسها التي خلفها كازانتزاكس على الصخور وهو يصعد جبل مصيره الوعر والقاسي.
كانت في هذه الرحلة الدامية، حسب قوله، أربع درجات حاسمة تحمل كل منها اسماً مقدساً؛ المسيح وبوذا ولينين وأوليس، رحلة سيحاول جاهداً تبيّن معالمها. ولكن هناك عدد من المعاني لهذا الربط بينه وبين "غريكو".
الأول أنه يمنحه لقب الجد القادم من تربة كريت، ويتراءى له فوق قمة الجبل، نبيلاً صارماً بلحيته الصغيرة البيضاء، وبشفتيه الجافتين ونظراته المنتشية المليئة باللهب والأجنحة، ويراه يمدّ له يده وكأنه يريد أن ينقذه، وتبدو اليد المزيّنة برسوم متعددة الألوان وكأنها ما زالت ترسم، فيكتسب قوة وزخماً من لمسه لها، ويصير قادراً على الكلام.
وترافق ملامح هذا الجد يوميات الروائي في رحلته بين الناس والعواطف والعقائد والقارات، ويشبه روحه المكافحة بما ترسمه لوحة إلغريكو الشهيرة المسماة "عاصفة فوق طليطلة" التي تبدو فيها السماء ملفعة بالصواعق الصفراء والغيوم السوداء الكثيفة، فهي روح مكافحة يائسة في معركة لا تراجع فيها ضد كل من الضوء والظلمة.
المعنى الثاني لهذ الربط يكمن في رؤية كازانتزاكس لخلوده في العلاقة بالأسلاف، وهو عنوان الفصل الأول من فصول كتابه. ويظهر الارتباط بالأسلاف المغروسين في أعماقه كما في أرض اليونان، بترابها وحجارتها وعشبها وشمسها، موضوعة رئيسية تتخلل حياته ورواياته سعياً إلى نوع من الخلود يحققه هذا الارتباط بالأجداد، أو بما يسمّيه العرق اليوناني، أو الكريتي بالتحديد.
ويتضح هذا المعنى في أعماله الأخرى بجلاء. في رواية "زوربا اليوناني" يحدثنا عن صديق له دعاه إلى الذهاب معه إلى القوقاز لإنقاذ بعض من عرقهم اليوناني المعرّض للإبادة، وفي رواية "الإخوة الأعداء" يحرص سكان قرية يونانية مهجرة على حمل عظام أجدادهم معهم لتدفن في مكان استقرارهم الجديد. وكذلك الأمر مع أهالي القرى في رواية "المسيح يصلب من جديد"، ورواية "الحرية أو الموت".
وتلقي شخصية مهاجر يوناني في أحد الأفلام السينمائية، أدى دوره الراحل أنتوني كوين، الضوء على هذه النزعة الشبيهة بالعقيدة، فحين يعجز الأطباء عن علاج ابن هذا المهاجر يقرّر في النهاية العودة به إلى اليونان مؤمناً إيماناً صوفياً بأن شمس وطنه ستتكفل بشفائه.
هذه العلاقة بالأسلاف، تكاد تكون هاجس حياته، لم تكن تجريداً ذهنياً بقدر ما كانت علاقة بالأرض وما عليها وما تحتها. يقول في اللحظات التي مدّ فيها يده وأمسك مزلاج الأرض ليفتح الباب ويمضي "إنني أتردد لحظة صغيرة على العتبة.. عيناي وأذناي وأحشائي تجد من أقسى الأشياء أن تسلخ نفسها عن حجارة العالم وعشبه.. يستطيع المرءُ أن يقول لنفسه أنه مكتف وأنه ينعم بالهدوء والسلام.. يستطيع القول أنه لم يعد يحتاج شيئاً، وأنه أدى واجبه، وأنه مستعد للرحيل، ولكن القلب يقاوم، يتمسك بالعشب والحجارة ويتوسل:"إبق قليلاً".
وهنا نصل إلى المعنى الثالث لهذا الرابط الذي أصبح ثلاثياً؛ بالأسلاف والأرض والخلود. إنه وصوله وصولاً حدسياً/مادياً إلى العمق بعيداً حتى عن أرض اليونان؛ إلى الصحراء العربية. واللافت للنظر هنا أن روحه بدأت تتماسك وتزداد صلابة ولم تعد تخفق وتضطرب كالمياه حين اتخذ طريقه إلى أسلافه العرب. وساعده على هذا التراب الذي ولد عليه أسلافه وتربّوا.
فمن هم هؤلاء الأسلاف؟ إنهم الذين انحدر منهم أهل والده من إحدى القرى التي تدعى بارباري، وهي قرى وزّع الرومان عليها العرب بعد احتلالهم لجزيرة كريت في القرن العاشر الميلادي، وفي قرية من هذا النوع مدّ آباؤه جذورهم.
إن فيهم كما يقول آثاراً عربية، فهم فخورون وصموتون ومشدودو الشفاه ومتحفزون دائماً. واللافت للنظر أن إشارات كازانتزاكس الجلية إلى شعوره بوجود جذر عربي في أعماقه يتحرّك بين الفينة والأخرى؛ لم تلفت من تناولوا أعماله حتى من بين العرب.
يقول صاحب "زوربا" إن قلبه كان يخفق فرحاً حينما يصادف نخلة، ومرة حين دخل إلى الصحراء العربية وتصفح بنظره أمواج الرمال اللامحدودة، أحس بثمل غريب، وزعق قلبه كأنثى صقر عائدة إلى العش الذي هجرته منذ آلاف السنوات. وظلت بعض تصرّفاته اللاإرادية تحيّره، مثل حرصه على الملح، وعدم التفريط بالماء، واهتمامه بالنار التي لا يريدها أن تشتعل بلا جدوى. وظلت ردود أفعاله على هذه المشاهد والأحداث غامضة إلى أن اكتشف معناها فجأة؛ كان الملح والماء والنار أثمن ما يملكه الإنسان في الصحراء. ويعلق على اكتشافه هذا بالقول: "لا شك أن سلفاً ما في داخلي، بدوياً، كان يندفع إلى الإنقاذ حين يرى عناصر الملح أو النار أو الماء تتبدّد".
وبالتوازي مع هذا الامتداد في الأرض، يعمل الروائي فيه على ابتكار بشر من كلمات وهواء وخيال قادرين على مقاومة البلى والاندثار ومقاومة الزمن؛ بشرٌ سوف يعيشون، ويعني بذلك شخصياته الروائية.