يصف المفكر السياسي الألماني، يان فيرنر مولر، الشعبوية بأنها "ادعاء التمثيل السياسي الحصري للشعب". لكن ما لم ينتبه إليه الفيلسوف الألماني، هو أن هذا الادعاء لا يشمل السياسة فقط، بل المجتمع والثقافة والدين. بل لنقل بأنه يشمل الحقيقة، ليقصي الآخرين منها، وعبر ذلك من المجتمع، إن لم يقصهم من الإنسانية. إقصاء هو حقد، لكنه حقد يتخذ طابعاً جمعياً.
تبدأ المفكرة الألمانية كارولين إمكه (1967) عملها الأخير "ضد الحقد" (منشورات س. فيشر، 2016) بأسطر من رواية رالف إليسون الشهيرة "الرجل غير المرئي"، يقول فيها بطل الرواية الأسود: "أنا غير مرئي.. وهذه اللامرئية التي أعنيها لها علاقة بخلقة خاصة تميّز عيون أولئك الذين أحتك بهم".
إنهم لا يريدون رؤيته، بل إنهم يرون كل شيء، إلا هو. يحتاج الحقد إلى يقين مطلق، تكتب إمكه، لأن بقاء أي احتمال، من شأنه أن يكون مزعجاً، وسيحرم الحقد من طاقته تلك، التي يتوجّب توجيهها باتجاه واحد، وتتابع بأن شيئاً ما تغيّر في ألمانيا، فقد أصبح التعبير عن الحقد واضحاً وبلا قيود. لكن إمكه لا تتحدث عن حقد فردي، ولا عن إحساس ضبابي، يعبّر عن نفسه خطأ أو لضرورة مزعومة، بل إن هذا الحقد عام ومكوّن بشكل أيديولوجي.
لكن، لماذا لا يريد الرجال البيض رؤية مواطنهم الأسود؟ لماذا لا يقبلون بامرأة محجبة؟ برجل صاحب سحنة عربية أو آسيوية؟ تكتب إمكه: "إن نظرهم ليس ضعيفاً، وليس هناك من سبب فيزيولوجي لذلك البتة، ولكنه موقف داخلي للناظر، ذاك الذي يحجبه ويدفع به إلى الاختفاء. إنه غير موجود بالنسبة للآخرين (...) أن تصبح لامرئياً بالنسبة للآخرين، هو الشكل الوجودي للاحتقار".
تهدف هذه اللامرئية إلى اعتبار اللامرئيين أناساً مجرّدين من الإحساس ولا حاجات لهم، وبالتالي، لا حقوق لهم. وهي الفكرة التي سجلها زيغمونت باومان في نقده لسياسات الهجرة الغربية، مسلطاً الضوء على أبعاد أخرى لقضية اللامرئية هذه، قد تصل إلى نزع الطابع الانساني عن الآخرين.
وحتى نعود إلى كتاب إمكه "ضد الحقد"، فإنها ستعمد إلى تفكيك بعض تمظهرات سياسات الحقد في اللغة، إذ للحقد لغته ومفاهيمه الخاصة به أيضاً، ومنها مفهوم "المواطن القلق"، وهو مفهوم يجري تداوله كثيراً في السنوات الأخيرة، داخل السياق الألماني، وقد تحوّل إلى يافطة خطابية، كما ترى إمكه، الهدف منها يكمن في "الحؤول دون طرح أسئلة عن الأسباب العقلانية التي تقف خلف هذا القلق، وترى ضرورة التمييز بين القلق وبين ما تسميه مارتا نوسباوم بـ"الاشمئزاز الإسقاطي"، أي ذلك الرفض المجرّد للبشر الآخرين، بدعوى ضرورة حماية الذات.
ويتم استعمال صفة القلق هنا للتغطية على المضمون العنصري، ولحماية الذات من كل نقد. إن هذا من شأنه أن يقود في النهاية إلى "تعويض المجتمعي بمقولات عنصرية"، كما يلاحظ عالم الاجتماع الفرنسي ديدييه إريبورن، الذي تُعتبر روايته السوسيولوجية "العودة إلى رانس" محاولة لفهم هذا التحوّل لدى الطبقة العاملة الفرنسية من اليسار إلى اليمين المتطرّف.
يجنح خطاب الحقد دوماً إلى التعميم، فهو لا ينظر إلى المهاجرين كأفراد، لكل سرديته الحياتية الخاصة به، ولكن دائماً ككتلة جمعية، ليصبح كل المسلمين وفقاً لهذه النظرة إرهابيين أو إرهابيين محتملين. "إنهم ـ تقول إمكه ـ يختزلون كل الإمكانيات اللانهائية لواقع أن يكون المرء مسلماً أو مهاجراً في شكل واحد" وتترافق مع هذا التعميم، إعادة إنتاج للصور النمطية التي عرفها السياق الألماني في مرحلة حكم النازية، ومنها تلك التي رأت في الأجانب خطراً على النساء الألمانيات، فالبروباغندا النازية كانت تقول في نصوصها ورسومها الكاريكاتورية الشيء نفسه عن اليهود.
تشير كارولين إمكه أيضاً إلى أمر ينطوي على أهمية أساسية، وهو أن بروباغندا داعش تلتقي مع بروباغندا اليمين المتطرف في حقدها وأيديولوجيتها التي تقوم على الأحادية الثقافية والدينية. إن كليهما يؤسّس لما يمكن أن نسميه "عدمية مقلوبة"، أي عدمية تنافح عن ماض لا تعرفه، وترفض الحاضر بسبب تعدّده وتعقيده الذي يتجاوز قدرتها على التفكير. إنها عدمية تذكرنا بوالدة إريبورن، التي لم تعد تفهم شيئاً في هذا العالم، فقررت التصويت في الانتخابات لصالح الجبهة الوطنية.
تعود الكاتبة الألمانية في دراستها للحقد إلى فرانز فانون وكتابه الشهير "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء"، محاولة معرفة ما يدور في رأس الرجل الأبيض، أو الطفل الأبيض، حين يقف أمام رجل أسود يرتجف من البرد. لن يرى الطفل الأبيض عذابه أو يحس بألمه، لن يرى فيه إلا ما تربى عليه من أحكام مسبقة، خطراً محدقاً، متوحشاً غاضباً، "يريد أن يلتهمه". هذه الأحكام المسبقة، ستعرف طريقها إلى مؤسسات الدولة، مثل مؤسسة الشرطة، تقول المفكرة الألمانية، وهي تصف عنف الشرطة الأميركية مثلا ضد الأميركيين من أصول أفريقية.
ترى إمكه أن أخطر شيء يهدّد الديمقراطيات اليوم، هو ما تسميه بأيديولوجية النقاء، سواء الديني أو العرقي، وهي تلك الأيديولوجية التي ترفض تجاور تقاليد وقناعات دينية مختلفة، وهي تضرب في هذا السياق مثلا بداعش، التي ترى أن لا شيء تكرهه أيديولوجية داعش، مثل التعدد الثقافي والديني.
لأن التعدد والهجانة تقف على النقيض من تلك الطهرانية المريضة، التي تميّز كل العنصريات. ولهذا يطمح داعش برأيها إلى تدمير مسلسل تطوّر إسلام أوروبي، والوجود الإسلامي في أوروبا، وهنا يلتقي داعش لا ريب مع اليمين المتطرّف، فالمتطرفون يقفون في نهاية المطاف، في الجبهة نفسها. تشير إمكه أيضاً إلى بروباغندا داعش، التي حذرت المهجّرين من المسلمين، من اللجوء إلى أوروبا، وهاجمت سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ولهذا تعتقد المفكرة الألمانية أن التعامل الإنساني والعادل مع اللاجئين يساعد في إضعاف مثل هذه الحركات المتطرفة.
إن العمليات الإرهابية المختلفة لداعش في أوروبا، ترمي برأيها إلى عزل المسلمبن عن أغلبية المجتمع، وتهميشهم، ووضعهم تحت المراقبة، وفي النهاية، سيدفعهم ذلك إلى الالتحاق بداعش. إن كل صوت في أوروبا، يربط المسلمين بالإرهاب، ويطلب حرمانهم من حقوقهم السياسية، يخدم أيديولوجية داعش وسياسته، ويؤسّس لنقاء عرقي مصطنع.
لهذا تنهي كارولين إمكه كتابها، بفصل يحمل عنواناً معبراً: "مديح اللانقاء"، وتستشهد بما كتبه جان لوك نانسي في "المفرد بصيغة الجمع"، من أن الفردانية لا تتحقق إلا مع ومن أجل الآخرين. إن التعدّد بهذا المعنى، لا يعني فقدان الحرية الفردية أو الجماعية، بل إنه ضامنها الوحيد. في حين أن الأيديولوجية التي ترى أن الاستقرار مرتبط بوجود أمة متناسقة، تجانب الحقيقة، لأن التناسق القومي، يقوم دائماً على إقصاء الآخرين، أو التمييز (العنصري) بين من ينتمي إلى الأمة ومن لا ينتمي أو لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن ينتمي إليها.