كأن الحياة "واتس أب" فقط؟

27 يوليو 2020

(Getty)

+ الخط -

من غرائب "واتس أب"، وهو إحدى منصّات التواصل الذي وُصف بالاجتماعي على الرغم من تكريسه التباعد، أنّ الفرد منا قد يتواصل فجأة مع أشخاصٍ لم يرَهم منذ ثلاثين عاما أو أكثر، إلى درجة أنه لا يشعر برغبةٍ ملحّةٍ في اللقاء الواقعي بهم، وكأن "واتس أب" قام باللازم بالنيابة عنه.
صارت هذه الحياة الافتراضية التي تجعل الواحد منا عابدا معتكفا على شاشة صغيرة في حجم اليد، تُغنينا، من دون أن نشعر، عن أيّ تواصل واقعي، فكل شيء يأتي إلينا من دون حتى أن نطلبه أو نسعى إليه أو نبحث عنه. كلّ معلومة أو طلب أو رغبة، أو حتى قريب أو صديق، موجود في جيبك وبين يديك. في الحقيقة، لقد جعل "واتس أب"، مثلا، الناس يعيشون وفق نموذج واحد ونمط واحد، فالمعلومة نفسها تلفّ وتدور لتصل إليك وإلى غيرك، من أكثرَ من مكان، مؤكّدة حضورها أكثر من مرّة. وبذلك تضمن وصولها إلى الجميع. والأغرب أننا لا نتساءل عن سبب ذلك كله، وعن فائدته لنا، ولا عن مقدار الوقت الذي نُضيّع في تتبّع الأخبار التي يأتي بها هذا الـ"واتس أب"، والتي يكون بعضها بلا مصدر مؤكد، ولا أحد يعرف من هو أول من أرسلها ونشرها بين "شعب واتس أب". ناهيك عن إكراهاتٍ تحدُث مع هذه "الجروبات"، حين تجد نفسك مضافا إلى إحدى المجموعات، من دون أن تطلب ذلك، بمبرّرات كثيرة. وحتى وإن "هربتَ" منها فهذا لا يعني أنك قد تخلّصت نهائيا، فهناك من سيتكفل بإرجاعك، بل ويطلب منك قبول الانضمام وإن لم تشارك، فمجرد وجودك "يُطمئن" المجموعة، ولو لم تتفاعل مع أعضائها، من منطلق أنك موجود بالفعل بين أفرادٍ ربما لم ترهم، أو قد تكون عرفتهم في "تاريخ" بعيد، لم يعد له أيّ امتداد أو تفاعل في حاضرك.
أذكر، في هذا السياق، أنه تمت إضافتي إلى "جروب" يعود إلى أصدقاء الطفولة في منطقة "وادي عدي" ويحمل اسمها، كنا حينئذ أطفالا نجتمع في كل وقت، ولا نكتفي بلقاءات المساء والإجازات، حيث يمكن كذلك أن نهرب من المدرسة، لكي نلتقي للعب. على الرغم من ذلك، استطاع أحدنا أن يحصل على مجموع في الثانوية أهّله لبعثة إلى أميركا، ولم يعد إلى عُمان منذ ذلك الحين. والبقية تفرّقت بهم سبل الحياة. ولم نلتق بعد ذلك، ولو بالمصادفة، ولكنْ فجأة أصبحنا فريقا واحدا في "واتس أب". ومن دون أن يعني ذلك أننا التقينا عيانا. لم يحدث ذلك بعد. ولكننا نتواصل كل يوم عبر هذا "الجروب". وهذا مثال يمكن أن أقيس عليه "جروبات" كثيرة، وجدتُني محشورا فيها. فهذا "جروب" العائلة الكبيرة، يحمل اسم جدي "ذرية ناصر بن عيسى"، ناهيك عن "جروب" العمل و"جروب" كلية الآداب في الرباط و"جروب" سفر جمعنا، يوما، مع أصدقاء إلى تونس. و"جروب" أنشأناه في الأردن مع زملاء كتّاب. و"جروب" مكوّن من أشخاص قليلين قرّرنا المشي في المساء أطلقنا عليه، تفكّهاً، اسم "العداؤون العظماء".. وهلم جرا من "جروبات" يصعب حصرها في مقال قصير. 
ثمة فائدة لواتس أب، تتعلق بإيصال المعلومة المهمة، ولكن فيض المعلومات التي لا أهمية لها، تترى ولا تتوقف، وتجعل حياة الإنسان متوترة ومفتوحة على كل شيء، وتحوّله هذه الجروبات إلى مستقبلٍ يعيش فقط على ردود أفعالٍ لم يشارك في صياغتها، ومعلوماتٍ ومقاطع لا تعنيه مباشرة، إلا بقدر ما تغذّي في نفسه فضولا غير ضروري، كما أنها تحرمه من الهدوء الضروري في الحياة.
وكأن سياسة "واتس أب" نجحت في ما كانت تصبو إليه: جعْل الجميع ضمن نمط تفكير واحد، كي تسهل السّيطرة عليه وتوجيهه، فلا يصدر خبر، كاذب أو صادق، حتى تتداوله جميع "الجروبات". بهذه الطريقة، ستكون المكاسب التجارية غير محدودة، والخسارات الفردية كذلك لا تقدّر: فقد حلّ الواقع الافتراضي محلّ الواقع المعاش، واحتلّ مكانه بالكامل، وهذا العالمُ من حولنا يصير، كل يوم أكثر، "قريةً افتراضية صغيرة".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي