قوائم الموت في النظام السوري.. التجاوز الممنهج للقانون

02 يناير 2019

سورية من دم..لوحة تمام عزام في دبي (29/11/2012/فرانس برس)

+ الخط -
ضجّت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، أخيرا، بعناوين كانت مفجعة لسوريين كثيرين، إذ قام النظام السوري بتسليم قوائم تضم أكثر من ثمانية آلاف معتقل فارقوا الحياة في معتقلاته، وذكر أن سبب الوفاة سكتة قلبية أو ربو. وتم تسليم القوائم إلى دوائر السجل المدني، ليتم تسجيل وقائع الوفاة في السجلات الرسمية، من دون أن يسلم الجثث إلى ذوي أصحابها، مدّعياً أنه قد تم دفنهم جميعاً، إلا أن أهالي متوفين كثيرين لم يقتنعوا بأن الوفاة كانت لأسباب طبيعية، بل أكد قسم كبير منهم، ولا سيما من هم خارج قبضة النظام، أن السبب هو التعذيب الذي تشتهر به الأفرع الأمنية السورية.
وبغضّ النظر عن مصداقية الحجة التي ساقها النظام عن أسباب الوفاة أو عدم مصداقيتها، فإن السؤال بداية: أين كل تلك الجثث، وما هو السبب في عدم تسليمها لذويها إن كانت الوفاة لأسباب صحية، كما يدّعي النظام؟ وهل بالفعل أراد النظام أن يغلق ملف المعتقلين، كونه من الملفات الضاغطة في مباحثات أستانة وجنيف، وبالتالي تنظيف السجون من المعتقلين؟ وهل سيسدل عدم تسليم تلك الجثث الستار فعلا على هذا الملف، وينجي النظام ورجالاته من المساءلة القانونية مستقبلا، في حال تم فتح الملف مستقبلاً؟

تسلط هذه الورقة البحثية الضوء على هذه الحادثة الفريدة من نوعها، وبيان مدى توافقها أو تعارضها مع القوانين الداخلية والدولية، من دون التعرّض لفرضية القتل تحت التعذيب، التي أكدتها تقارير أصدرتها المنظمات الحقوقية، المحلية والدولية.

توصيف النزاع
وصفت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، منذ عام 2012 النزاع في سورية بأنه مسلح غير ذي طابع دولي، كما أن أغلب القرارات التي صدرت عن مجلس الأمن بخصوص سورية وصفت الوضع في سورية بالنزاع، وطالبت أطراف النزاع بالالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني. ومعلوم أن النزاع لا يمكن أن يكون إلا نزاعاً دولياً (بين دولتين أو أكثر)، أو نزاعا غير ذي طابع دولي (بين دول/ة ومجموعات مسلحة تحمل السلاح علناً)، وهذا هو الحال في سورية. كما أن القانون الدولي الإنساني المتمثّل باتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وملحقيها الإضافيين لعام 1977، يطبق فقط في حالة النزاعات المسلحة (الدولية وغير الدولية)، ناهيك عن المطالبات المتكرّرة في جلسات مجلس الأمن الدولي لإحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية، والتي بقيت بلا جدوى بسبب النقض الروسي الصيني (الفيتو).
كما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبموجب قرارها رقم 248/71، أنشأت الآلية الدولية المحايدة المستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورةً، وفق تصنيف القانون الدولي والمرتكبة في سورية منذ مارس/ آذار 2011. ومعلوم أن الجرائم الأشد خطورة هي الواردة في نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وهي جرائم الحرب والعدوان وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية (المادة 5)، وكذلك الحال بالنسبة لقرار مجلس حقوق الإنسان رقم 71/1 تاريخ 22/8/2011، المتضمن إنشاء لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سورية.
زد على ذلك كله أن عملية السلام التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف من خلال مبعوثها الخاص ستيفان دي ميستورا، تحت مظلة القرار رقم 2254 لعام 2015، وكذلك مسار أستانة الذي نجم عنه توقيع عدة اتفاقيات "خفض التصعيد" بين نظام الأسد والمعارضة المسلحة، بضمان تركيا وإيران وروسيا، تؤكد أن النزاع في سورية مسلح غير دولي، وبالتالي على جميع الأطراف المتنازعة احترام قواعد القانون الدولي الإنساني، وهذا يشمل القواعد المتعلقة باحترام جثث الموتى، وضرورة دفنها بطريقةٍ لائقة، وتتفق مع شعائر دين المتوفى، وتمييز قبورهم بطريقةٍ يمكن الاستدلال عليها، هذا في حال استحالة تسليم تلك الجثث بسبب ظروف الحرب.

مدى إلزامية القانون الدولي الحكومة السورية
يعتبر القانون الدولي الإنساني من فروع القانون الدولي العام. وبالتالي، فإن الحديث عن مدى إلزامية الأصل ينسحب تلقائياً على الفرع. ويتألف القانون الدولي من قواعد قانونية ملزمة تنظم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي، ويعتبر انتهاكها عملاً غير مشروع، يرتب المسؤولية القانونية، وهذا ما يميزها عن المجاملات الدولية والأخلاق الدولية.
وحسب المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، والذي يعتبر جزءا من ميثاق الأمم المتحدة، ويعد دستور القانون الدولي والعلاقات الدولية، فإن مصادر القانون الدولي هي المعاهدات والعادات والأعراف الدولية، ومن ثم المبادئ العامة للقانون والسوابق القضائية وآراء كبار الفقهاء. وهذا يعني أن على الأطراف المتحاربة في سورية، دولاً ومجموعات، الالتزام باتفاقيات جنيف الأربع، وملحقيها الإضافيين، والتي تنظم قواعد النزاع المسلح، الدولي وغير الدولي، لأن سورية من الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وأن المادة الثالثة المشتركة بين هذه الاتفاقيات نصّت على أنه، في حال قيام نزاع مسلح غير دولي، تلتزم الدول المتعاقدة بقواعد القانون الدولي الإنساني. وأكدت المادة الرابعة ضرورة تطبيق تلك المبادئ بخصوص جثث الموتى. وبالتالي، على النظام السوري الالتزام بعدم انتهاك حرمة الأموات، وتسليم جثثهم إلى ذويهم، ما دام التسليم ممكنا في الحالة السورية، فمن يكون قادراً على الاعتقال قادر بالطبع على التسليم.


وتعتبر ضرورة احترام جثث الموتى وحمايتها ودفنها بالطريقة اللائقة من قواعد القانون الدولي الانساني العرفي، وفق القواعد 114 و115 و116 من القواعد العرفية التي أعدتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، إضافة إلى أن توقيع حوالي 160 دولة على البروتوكولين الإضافيين يؤكد على تواتر الدول على الالتزام بممارسة تلك القواعد، إضافة إلى وجود شعور عام بضرورة احترامها، أي الممارسة والاعتقاد القانوني بإلزاميتها، وهذا ما يشكل القانون الدولي الإنساني العرفي. ويشكل العرف الدولي المصدر الثاني من مصادر القانون الدولي، حسب المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية. وهذا يرتب الالتزام القانوني على النظام السوري بضرورة احترام القواعد في البروتوكولين الإضافين لعام 1977، بغض النظر عن مسألة التوقيع أو عدم التوقيع عليها، ما دامت هي قواعد عرفية ملزمة بطبيعتها. إضافة إلى توقيع سورية على اتفاقيات جنيف الأربع، وما تضمنته المادة الثالثة المشتركة بين الاتفاقيات المذكورة من ضرورة تطبيق تلك القواعد على النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي.
وقد أكد القضاء الدولي، في أكثر من مناسبة، الطابع العرفي لقواعد القانون الدولي الإنساني، وأن الاتفاقيات الناظمة لقواعد القانون الإنساني ليست سوى تدوين للقواعد العرفية، فعلى سبيل المثال، في قضية الأنشطة العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغو وضدها عام 1986، ذكرت محكمة العدل الدولية أن على الولايات المتحدة أن تحترم اتفاقيات جنيف وأن تفرض احترامها. وبالتالي لا تشجع أشخاصاً أو مجموعاتٍ تشارك في النزاع على خرق أحكام المادة الأولى لاتفاقيات جنيف الأربع. وقد وصفت المحكمة المادة الثالثة المشتركة لاتفاقيات جنيف بأنها تتضمن مبادئ أساسية عامة للقانون الإنساني، على كل الدول الالتزام بها. وفي ما يتعلق بالبروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، أكدت محكمة العدل الدولية أن جميع الدول ملتزمة بهذه القواعد التي كانت، عند اعتمادها، مجرد تعبير عن القانون العرفي الذي كان قائماً قبلها.
زد على ذلك كله أن القوانين السورية الداخلية أكدت، في أكثر من مناسبة، أولوية القانون الدولي والمعاهدات الدولية على القوانين الداخلية، فقد ورد مثلا في ديباجة دستور سورية لعام 2012 أن السلم والأمن الدوليين يعدّان هدفاً أساسياً وخياراً استراتيجياً، تعمل سورية على تحقيقهما في ظل القانون الدولي. وهذا يؤكد الإقرار بسمو القانون الدولي على القوانين الداخلية، كما أن المادتين، 25 من القانون المدني السوري، و312 من قانون أصول المحاكمات المدنية رقم 1 لعام 2016 أكدتا أيضاً سمو المعاهدات الدولية على القوانين الداخلية.

معاملة الموتى وفقاً للقانون
اعتبر قانون العقوبات السوري أن التعدي على حرمة الأموات، أو ارتكاب أي فعل يخلّ بنظام الدفن، وكذلك إتلاف الجثة أو سرقتها، جريمة يعاقب عليها القانون. وشدّد في العقوبة إن كانت السرقة أو الإتلاف يهدفان إلى إخفاء الموت. وهذا يعني أن المشرّع السوري قد أعطى للميت وجثته حرمة خاصة، ولا يمكن الإساءة إليها أو عدم اتباع الشعائر المرعية في الدفن، وفي الحفاظ على القبور. واعتبر أيضا أن تدنيس القبور أو هدمها أو تشويهها جرم جزائي يعاقب عليه القانون. وبالتالي، فإن عدم دفن الجثة، أو دفنها خلافا للأصول الدينية والعادات المرعية، يعتبر خرقا لقانون العقوبات السوري، ويستوجب المساءلة. وتقتضي هذه الأصول والعادات إتاحة الفرصة لأقارب الميت ومحبيه الوجود في مراسم العزاء والدفن، في حال رغبتهم بذلك.
كما أن قانون السجل المدني السوري، المتمثل بالمرسوم رقم 26 لعام 2007، اشترط أن يتم تسجيل الوفاة لدى دوائر السجل المدني، بموجب شهادة مختار، مرفقة بتقرير طبي يثبت أن

الوفاة طبيعية، وفي الأمكنة التي لا يوجد فيها أطباء يكتفى بشهادة المختار بأن الوفاة طبيعية. وعليه، في حالة الاشتباه بأسباب الوفاة، جمع المعلومات وإبلاغ السلطات القضائية والإدارية بالأمر. فهل أرفق النظام السوري الشهادات المطلوبة مع قوائم الموت التي أرسلها إلى دوائر السجل المدني؟ وهل تم إبلاغ السلطات القضائية بالأمر، لإجراء التحقيقات اللازمة، للوصول إلى السبب الحقيقي للوفاة؟
وعالج القانون الدولي الإنساني أيضاً عبر اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وملحقيها الإضافيين لعام 1977، موضوع التعامل مع جثث القتلى في أثناء النزاعات المسلحة، الدولية وغير الدولية. وألزم أطراف النزاع بضرورة احترام الجثث وعدم العبث بها، أو الإساءة إليها، والبحث عنها ومنع سلبها، وضرورة تسجيل البيانات التي تساعد على التحقق من هوياتهم، كالاسم واللقب والتولد وتاريخ الأسر وسبب الوفاة، وغير ذلك من المعلومات المتوفرة، ويجب التحقق من أن الموتى قد دفنوا باحترام، وطبقا لشعائر دينهم، وأن مقابرهم تُحترم وتُصان بشكل ملائم، ويجب تمييزها بحيث يمكن الاستدلال عليها دائما. وتتعلق هذه القواعد بالنزاع المسلح الدولي، بين دولتين أو أكثر، وكذلك بالنزاع المسلح غير الدولي، كما الحال في سورية وفق ما جاء سابقا، حيث أكدت المادة الثالثة المشتركة بين الاتفاقيات الأربع أنه في حال قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي فإن الأطراف المتنازعة تلتزم بقواعد القانون الدولي الإنساني. وجاءت المادة الرابعة لتؤكد أن تلك القواعد تطبق أيضاً على جثث الموتى، وسورية من الدول الموقعة على الاتفاقيات المذكورة، وبالتالي ملزمةٌ قانونا بما ورد فيها.
زد على ذلك أن البروتوكول الثاني، الملحق باتفاقيات جنيف، والمتعلق بالنزاعات المسلحة غير الدولية، قد أكد ضرورة البحث عن الموتى، والحيلولة دون انتهاك حرماتهم، وأداء المراسم الأخيرة لهم بطريقة كريمة، ولا يمكن للحكومة السورية التذرع بأنها لم توقع على البروتوكول الثاني المذكور، لأن القواعد الواردة فيها تعتبر من القواعد العرفية الملزمة قانونا، وقد أوردت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 161 من القواعد العرفية الملزمة، منها ضرورة إعادة رفات الموتى إلى ذويهم قدر الإمكان، ومعاملة جثث الموتى باحترام، وتمييز قبورهم لسهولة الاستدلال عليهم، كما ذكر سابقاً، ناهيك عن أن المادة الرابعة من اتفاقيات جنيف الأولى قد أكدت ضرورة تطبيق المادة الثالثة المشتركة أيضاً بخصوص البحث عن الجثث.

وشدد القانون الدولي الإنساني على ضرورة التحقيق الجاد من أي طرف، في حال وفاة أي معتقل في سجونها، وإذا ثبتت بالتحقيق مسؤولية شخص أو أكثر، فلا بد من اتخاذ الإجراءات القضائية ضد المسؤول أو المسؤولين عن الوفاة، وهذا يؤكّد ضرورة اتخاذ الإجراءات القانونية للتحقق من سبب الوفاة التي ادّعى بها نظام الأسد. ويتيح هذا التحقيق المجال أمام ذوي المتوفى بتوكيل محامٍ أو أكثر، وتشريح الجثث لتحديد سبب الوفاة، تمهيدا لمحاكمة المسؤولين، في حال تبين خلاف ما ادّعى به النظام السوري.

هل قوائم الموت تنجي نظام الاسد؟
واعتبر نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وكذلك الانتهاكات الخطرة الأخرى للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة، في النطاق الثابت للقانون الدولي، وكذلك الانتهاكات الجسيمة للمادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع، في حال وقوع نزاع مسلح غير ذي طابع دولي، جريمة حرب، والتي تعتبر من بين الجرائم الأشد خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره.


ازدادت وتيرة الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في سورية بشكل ملحوظ خلال سنوات الحرب، وقد كانت هذه الظاهرة أكثر شيوعاً في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة عنها في أي مناطق أخرى. وقد وثقت اللجنة الدولية المستقلة المعنية بسورية النمط الواسع النطاق والمنهجي الذي يتمثَّل في توقيف القوات الأمنية أو القوات المسلحة التابعة للحكومة أو المليشيات العاملة باسمها الرجال فوق سن 15 سنة واحتجازهم تعسفياً، في سياق الاعتقالات الجماعية في نقاط التفتيش، أو في أثناء تفتيش البيوت. وفي أحيانٍ كثيرة، كان المحتجزون يتعرّضون للضرب، بعد أخذهم إلى مرافق الاحتجاز التي تديرها الحكومة، وهلك كثيرون منهم بعد ذلك، بسبب التعذيب، أو ظروف المعيشة اللاإنسانية، أو الافتقار للمساعدة الطبية الكافية، أو الإهمال المتعمد. وعلمت أسر كثيرة بمصير آبائهم، أو أزواجهم، أو أبنائهم للمرة الأولى في شهر مايو/ أيار 2018؛ عندما زوّدت كيانات تابعة للدولة مكاتب السجل المدني الحكومية بمعلوماتٍ بالجملة عن وفيات أشخاص. وعندئذٍ تُسجِّل مكاتب السجل المدني وفياتهم، وتقوم لاحقاً بتحديث بيانات الأُسرة. ويبدو أن معظم الوفيات في أثناء الاحتجاز قد وقعت في أماكن الاحتجاز التي تديرها المخابرات السورية، أو الوكالات العسكرية، ولكن اللجنة لم توثَّق أي حالةٍ تم فيها إعادة الجثة أو الممتلكات الشخصية للمتوفّى.
ثبت قانونا مما سبق ذكره أن الإخلال بأنظمة الدفن، وانتهاك حرمة الميت، يشكل جرما يعاقب عليه القانون، السوري والدولي. وبالتالي، فإن تسليم النظام السوري قائمة تضم أسماء المتوفين في المعتقلات إلى مديريات وأمانات السجل المدني، لتسجيل وقائع الوفاة، لا يشكل التزاماً بالقواعد والأصول الواجب اتباعها في دفن الموتى، وصيانة قبورهم واحترامها، بل على العكس يشكل انتهاكا واضحا لتلك القواعد والقوانين الناظمة لهذه الحالة. وما يثبت صحة هذا الكلام أن النظام السوري لم يسلم الجثث إلى ذويها، فلو لم يكن ثمّة جرم أو جرائم يخفيها في ثنايا تلك الجثث، لما أحجم عن تسليمها، ثم إنه، وعلى فرض صحة أقواله، تم دفنهم، فكيف تم دفنهم وأين؟ ولماذا لا تكون قبورهم واضحة المعالم وواضحة الدلالة، بحيث يمكن لذوي الموتى زيارتهم؟ وهذا من أبسط الحقوق التي يتمتع بها ذويهم. ومن المعلوم أنه توجد حالة من الشك، بل والاتهام للنظام السوري بأن من وردت أسماؤهم في تلك القوائم قد توفوا تحت التعذيب. لذلك كان من المفترض، وفق المادة 44 من قانون السجل المدني، إبلاغ السلطات القضائية للتحقيق في الأمر، وتحديد سبب الوفاة.
وحسب متابعتي الموضوع، وكوني عملت فترة لا بأس بها في القضاء الجزائي، فإن هذا الأمر مستبعدٌ جداً، لأنه لم يكن متيسراً قبل 2011 لمن يفارق الحياة في الأفرع الأمنية، حيث لم يكن يتم إبلاغ القضاء بذلك، كما أنني كنت قاضي نيابة في سورية (ريف دمشق) عامي 2011 و2012، ولم يتم إخباري بأي حادثة وفاة في السجون التابعة للنظام.
وقد ألزم القانون الدولي الإنساني أطراف النزاع بأن يدفنوا الموتى، وفقا لشعائر دينهم، هذا إن لم يكن في الوسع تسليمهم للطرف الآخر، ونرى إنه ليس ثمّة ما يمنع النظام من تسليمها، وهذا الالتزام واجبٌ على النظام، سواء كان المعتقل مدنياً أم مقاتلاً أم "إرهابياً" حسب ادعاء النظام، لأن القانون السوري، وكذلك القانون الدولي الإنساني، أوجب عدم انتهاك حرمة الميت، وأوجب دفنه وفق الأصول، وتمييز القبور للاستدلال عليها مستقبلاً، من دون تحديد صفة الميت، أو تحديد عقيدته، أو انتمائه، أو توجهاته، إنما أوردت كلمة الميت من دون تحديد، ومن المعلوم قانوناً إن المطلق يجري على إطلاقه.
وبالتالي، يعتبر تسليم القوائم حجةً قانونية ضد النظام، وليست لصالحه، كما يعتقد بعضهم، ويكون قد ارتكب جرماً قانونياً، يضاف إلى الجرائم الكثيرة التي ارتكبها طوال سنوات الحرب الدائرة في سورية، ولا يمكن بأي حال إعفاؤه من المساءلة، ويعتبر تصرّفه قرينة قانونية على محاولته إخفاء جرائم أخرى كامنة في الجثث التي رفض تسليمها لذويها، ولا سيما التعذيب حتى الموت، لأن من المعلوم لكل من عمل في السلك الجنائي، من قضاة ومحامين وأطباء شرعيين وضباط وعناصر الضابطة العدلية، إنه يمكن التعرف على سبب الوفاة، وفيما إذا كانت طبيعية أم ناتجةً عن أعمال الجبر والشدة من خلال تشريح الجثة.
ومن خلال ما تم ذكره، يمكن مستقبلاً، إن أخذت العدالة مجراها في سورية، محاكمة المسؤولين في نظام الأسد عن جريمة إخفاء الجثث، وانتهاك حرمة الأموات وفقا لقانون العقوبات السوري، وكذلك مساءلتهم وفق نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب، بسبب الانتهاك الجسيم لاتفاقيات جنيف الأربع وبروتوكوليها الإضافيين، وانتهاك قواعد القانون الدولي العرفي الملزمة قانوناً، ولا سيما أن سورية من الدول الموقعة على اتفاقيات جنيف الأربع، كما تم التفصيل سابقاً.

خاتمة ونتيجة
يعتبر ما قام به النظام السوري فريداً من نوعه، لكنه ليس غريباً على نظامٍ حكم البلاد والعباد بالحديد والنار نحو خمسة عقود، نظام عرف بالمحاكم الاستثنائية التي لا يمكن اعتبارها إلا أداةً طيعةً في يد هذا النظام، لتصفية خصومه السياسيين، والخارجين عن حظيرة الطاعة، كما وعرف بإطلاق يد الأفرع الأمنية وسياطها على أنفاس الناس وحيواتهم، من دون أي رقابة قانونية. وأفضل وصف لتلك الأفرع أنها السلطة الأولى التي تتفوق على السلطات الثلاث الرئيسية، وتقضمها متى شاءت، مع أنها غير مذكورة في الدستور السوري.


ما قام به النظام من تسليم قوائم الموتى إلى مديريات وأمانات السجل المدني، من دون تسليم الجثث إلى ذويها، يعتبر انتهاكاً واضحاً وفاضحاً للأعراف والأصول الدينية، بغض النظر عن ديانة المتوفى، وكذلك للقوانين الداخلية والدولية، ولا سيما اتفاقيات جنيف الأربع وملحقيها الإضافيين، الأمر الذي يستدعي جمع الأسماء التي تم تسليمها وتدقيقها، وجمع المعلومات اللازمة عنها، وتحضير ملفات قانونية صلبة، تكون جديرة بتقديمها للمحاكم الداخلية أو الدولية، في اللحظة التي يتم فيها فتح الأبواب أمام العدالة، لتأخذ دورها المنتظر في سورية. إذ إن ما قام به النظام لا يمكن أن يكون سبباً للإفلات من المساءلة والعقاب، كما يعتقد بعضهم، بل على العكس سيكون سببا للمساءلة، ولم يقدم النظام على هذه الخطوة جهلاً بالقانون، كما قد يتبادر إلى أذهاننا أحياناً، بل لأنه يرغب في إخفاء جرائمه المتمثلة بالقتل تحت التعذيب، والقتل خارج القضاء، عن حاضنته الشعبية، كي لا يفقد تأييدها، أو على الأقل كي لا يخف زخم تأييدها له.
ولأنه يعتقد واهماً أن المجتمع الدولي، ومن خلال الفيتو الروسي الذي استخدِمَ أكثر من عشر مرات لصالحه سيحميه، من دون أن يفكر قليلاً بأن الدول مصالح، وأن صديق الأمس قد يصبح عدو الغد، وما يدفع روسيا والمجتمع الدولي إلى شرائه اليوم قد يكون سبباً في المستقبل لبيعه أيضاً في السوق الدولية، وتقديمه للمحاكمة، كما حدث مع حكام ومجرمي حرب كثيرين توهموا فترة طويلة أنهم بعيدون عن المساءلة، وأنهم فوق العدالة والقانون، أمثال الرئيسين الأسبقين، الأرجنتيني خورخي فيديلا، واليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، وغيرهما.
ولكن علينا الاعتراف بأن الوصول إلى العدالة ومحاكمة المسؤولين عن هذه الجريمة موضوع البحث، وغيرها من الجرائم التي ارتكبت في سورية، لن يكون سلسا، ولن يمر بدون منغصات، وذلك لأن منفذي تلك الجرائم، وكذلك من كان يستفيد من فساد النظام، سيعرقلون أية عملية محاسبة بشتى الوسائل. ومن الممكن، وهذا ليس مستبعداً، أن يلجأوا إلى الأعمال الانتقامية لأجل ذلك. وقد حصل هذا في دولٍ كثيرة شهدت سقوط الأنظمة الدكتاتورية كالأرجنتين والعراق. كما أنه كلما طال أمد النزاع ازداد عدد معرقلي عملية المساءلة، لأن كثيرين ممن أعلنوا اختلافهم مع نظام الأسد لم يختلفوا عنه، وحققوا مكاسب سياسية ومادية كثيرة. ومن المستبعد أن يتخلّى هؤلاء عن تلك المكاسب بسهولة وطواعية، ليقينهم بأنهم لن يكونوا بعيدين عن المساءلة أيضاً.

526FD892-DB64-4F73-BF06-33020049C5B7
526FD892-DB64-4F73-BF06-33020049C5B7
رياض علي

قاض سوري سابق، دبلوم دراسات عليا في القانون الدولي

رياض علي