ليس الإعلام والسياسة في تونس خطّين متوازيين، بل يتقاطعان في عديد المفاصل، وبينها قرارات غلق القنوات والمحطات الإذاعية غير القانونية. فبعد قطع الإرسال عنها، يوم الخميس الماضي، ومصادرة معداتها، تنفيذاً لقرار سابق من الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا)، عادت قناة "نسمة تي في" للبثّ، لكن من دون برمجتها العادية ومتابعاتها الإخبارية اليومية طيلة النهار.
واكتفت القناة ببث بعض الإعلانات والندوة الصحافية التي عقدها مديرها العام، يوم الجمعة الماضي، لتوضيح ملابسات قرار قطع البث ومصادرة المعدات. عودة البث لم توقف الأسئلة المتداولة حول ما حصل، وما هي مسبباته الحقيقية؟
ففي ظاهر الأشياء، يبدو قرار قطع البث ومصادرة المعدات تنفيذاً لقرار الهايكا، لكنّ أحد مالكي القناة، نبيل القروي، يؤكد أن الهايكا كانت الوسيلة فقط لضرب القناة، وليست السبب المباشر في ما حصل. وهو ما يؤشر إلى وجود خفايا للموضوع لم يكشف عنها القروي صراحةً، وإن لمّح إلى وقوف صراعات سياسية في تونس، خلال العام الحالي، كونها سنة انتخابيّة.
ولا يخفي نبيل القروي وقوفه ضد رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، كما لا يمكنه إخفاء طموحاته السياسية، وإن حاول ذلك. فالجميع في تونس اعتبروا أنّ القروي بدأ حملته الانتخابية مبكراً، من خلال توظيفه جمعية "خليل تونس" التي تقدم مساعدات عينية ونقدية للعائلات الفقيرة في البلاد، مع تصوير ذلك وبثه في برنامج يومي على قناة "نسمة". وهو أيضاً ما اعتبرته "الهايكا" دعايةً سياسية لنبيل القروي. وما زاد الطين بلة، الإعلان الذي شرعت القناة في بثّه منذ ما يزيد عن أسبوعين، والذي يظهر فيه القروي يوجه ما يشبه الخطاب السياسي لمناصريه، ما اعتبره البعض تأكيداً لشروعه المبكر في الحملة الانتخابيّة.
وجاءت المواقف السياسية الصادرة بعد غلق "نسمة" لتؤكد على حضورها ونبيل القروي السياسي. فقد اعتبر نجل الرئيس التونسي، حافظ قايد السبسي، والقيادي البارز في حزب "نداء تونس" الذي انشقّ عنه رئيس الحكومة أنّ "ما حدث مع قناة نسمة بحجة تنفيذ قرارات الهايكا الانتقائية والتي أصبحت لا صفة لها منذ استقالة معظم أعضائها، هو ضرب لحرية التعبير، أكبر مكسب تحقق إثر الثورة". وهو رأي يلتقي فيه مع القيادي البارز في حركة "النهضة" ورئيس كتلتها البرلمانية، نورالدين البحيري، الذي قال "ما تمارسه المجموعة المتبقية من الهايكا والمتنفذة فيها في حق الإعلام والإعلاميين وما يصدر عنها من تهديدات واتهامات، صعلكة وتدخّل مفضوح في الحياة السياسية، وتدمير لأحد أهم مكاسب الثورة".
وصعّد حزب "حركة النهضة" الإسلامي، صاحب الكتلة الأكبر في البرلمان التونسي، مهدّداً بالانسحاب من الحكومة إن أصبحت حرية التعبير في خطر بعد غلق قناة "نسمة"، وهو الأمر الذي يبرز مدى الحضور السياسي في لعبة تنفيذ القوانين في تونس، مع العلم أنّ قناة "الزيتونة" وإذاعة "القرآن الكريم" وضعيتهما أيضاً غير قانونية، لكن لم يتم تنفيذ الأحكام المسلّطة عليهما من قبل الهايكا بحجة الحماية التي تحظيان بها من حركة النهضة.
وبدأ غلق قناة "نسمة تي في" يرسم ملامح مشهد إعلامي جديد في تونس، تحاول فيه مراكز قوى التحكمَ في هذا الإعلام باسم الدفاع عن حرية التعبير. فقد فوجئ الجميع بالموقف الذي اتخذه الاتحاد العام التونسي للشغل (كبرى المنظمات النقابية التونسية) الرافض لغلق القناة، معتبراً ذلك سابقةً تاريخية، داعياً إلى تسوية الملف بشكل سريع. وهو رأي شاركهم فيه الرئيس التونسي الباجي قايد السسبسي، الذي استقبل يوم الاثنين، نبيل القروي بطلب من هذا الأخير، وفقاً لبيان رئاسة الجمهورية التونسية. ويأتي تأكيد أنّ اللقاء كان بطلب من القروي فيه نفي لأي شبهة بتدخل الرئيس التونسي الذي تعرف علاقته مع رئيس الحكومة بعض التوتر، تلافياً للتأويلات الممكنة.
في مقابل ذلك، اصطفت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، المدافعة عادةً عن حرية الصحافة، في صف "الهايكا"، حيث حمّلت مسؤولية ما حصل لنبيل القروي الفاعل الأول في القناة، معبّرةً عن تضامنها مع الصحافيين العاملين في القناة من دون سواهم. بمعنى أنّ النقابة ضد نبيل القروي ومع صحافيي القناة التي يمتلكها ومع تنفيذ قرارات الهايكا، وهو ما يبدو معادلة صعبة عبّر عن رفضها بعض الصحافيين العاملين في القناة الذين اصطفوا مع القروي.