قطط إسطنبول

15 اغسطس 2019
+ الخط -
في أغلب مدن العالم هناك هوية ترسم ملامح المدينة، ثقافتها التي صُنِعت من قبل سكانها ليعيشوا في فلكها. في إسطنبول طابعٌ خاص، بطله الأول، القطط. في زيارته لتركيا في 2009، داعب الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قطة تعيش في متحف أيا صوفيا، وفي 2018 سرقت الأضواء قطة في عرض للأزياء والموضة، حين مشت على المنصة بكل خفة وأناقة. فما أمر القطط في هذه المدينة؟
بألوانها وأشكالها وأطباعها المختلفة، سبعة قطط، "ساري المحتالة، وأسلان الصياد، وبينجو العاشقة، ودينيز الاجتماعي، وسيكوبات المجنونة، ودومان الرجل المهذب، وجامسيز اللاعب"، كانت ضالة كاميرا المخرجة التركية "سيدا تورون" في فيلمها الوثائقي "كيدي - kedi" والتي تعني قطة باللغة التركية. يقف وراء كل قطة من تلك، رفيق أو معين لها، يحكي علاقته المعنوية والنفسية معها.
حين تشاهد الفيديو التشويقي للفيلم، ينتابك إحساس الدهشة.. فيلمٌ كاملٌ عن القطط! لكن عندما تدخل الفيلم وتعيشه تُدرك أن إسطنبول، بكل ما فيها من تفاصيل يومية ممتدة إلى ثقافات مختلفة، تستعد كل صباح لمراقبة قصص سكانها البشر وكائناتها المشاكسة أيضاً.
"كيدي" الذي تم عرضه لأول مرة في 2016، في مهرجان إسطنبول للأفلام المستقلة، يحاول بطريقة لطيفة شرح أهمية القطط لدى سكان المدينة. قطط عاشت لمستويات زمنية عديدة، وشهدت إمبراطوريات تصعد وتهبط. تجسد كما وصف أحد السكان في الفيلم "أصالة وثقافة المدينة، وهو جوهر إسطنبول، من دون وجود القطط، ستخسر المدينة جزءاً من روحها". بسردها الإخراجي، تتحرك كاميرا سيدا تورون من فوق أبنية المناطق الحضرية لتنحدر إلى الطرقات لتمشي مع خطوات القطط، التي لا حدود مكانية لها، تتنقل بحرية تامة باحثةً عن طعامها بسهولة، لأن غالبًا ما تجد أطباقًا مخصصة لها من الطعام والماء، ولها نصيبها الدائم من عينات الأسماك التي يجنيها الصيادون يوميًا من مياه البوسفور، أو حتى تشارك زبائن المطاعم في وجباتهم من اللحم والدجاج الطازج، وكأنها تدرك أن لا أحد يستطيع منعها من ذلك. يقول أحد المشاركين في الفيلم إن "القطط تعرف أن الناس يعملون كوسيط لإرادة الله، على عكس الكلاب.. ليس هذ من قبيل نُكرانها لفضل البشر عليها، لكنها تعرف الأصوب، هي تعرف أن الله موجود حقًا". فلسفة روحانية يشعر بها سكان المدينة تُلزمهم بالاعتناء بالقطط، كطقس يُريحهم نفسيًا، يسحب منهم سوداوية ظروف حياتهم كالصلاة، فمن لا يستطيع حب الحيوانات، لن يستطيع حب البشر. ولعل هذا هو المبرر العام والدافع الأساسي لاهتمامهم بالقطط.
للقطط شخصيات تمثل طباعهم المختلفة. مثلنا نحن البشر. تغار، تغضب، تفرح، تستاء، تخاف، وتقلق، إحدى القطط تدفعها غريزة الأمومة، لتتواصل مع صياد السمك، وتدله على مكان أطفالها حديثي الولادة، لكي يعتني بهم. وهناك أخرى، يعكس اهتمام من تُقيم معه سعادتها المفرطة بهذا الاهتمام، فهي قطة، "تُحِب أن تُحَب". وتعيش معه منذ 9 سنوات كما قال، هذا التداخل في المشاعر، لا يجعل القطة مجرد حيوان لطيف، يُمكن إدراجه تحت رغبة مختزلة بتربيته في المنزل فقط، إنما رفيق يُمكن التحدث إليه بمحادثات لا نهائية، والشعور به بحس أبعد من كونه حيوانا، إنما واحدٌ منا، إتاحة المجال له بالخروج أينما شاء، وسيعود إلى مكانه المألوف، بسبب هذا التداخل والرابط الشاعري غير المبتذل بينه وبين المكان وأصحابه.
في بعض الأحيان، تلعب القطط في إسطنبول دور الأبطال الخارقين. تساعد أصحاب المحال والمطاعم على تنظيف الأماكن من الفئران في الشوارع القريبة منهم. التي يستعصي عليهم حل تلك المشكلة بمفردهم دون تدخل القطط، وتحمي القطط بذلك المنطقة من الأوبئة التي قد تحملها الفئران والجرذان إلى السكان. يمكنك أن تؤمن بما تشاء من الأفكار أو الفلسفات والنظريات المعقدة، التي ربما تمنحك الدافع لكي تعيش أيامك المقبلة بتوازن أكثر مع ذاتك، وإسطنبول جزء من توازنها يكمن في القطط.
C702BD6A-ECF4-42B5-9038-0FD7E61B7F86
C702BD6A-ECF4-42B5-9038-0FD7E61B7F86
صالح ملص (سورية)
صالح ملص (سورية)