قصص نحيلة

19 مارس 2015

من فرط حبه غابرييل غارسيا ماركيز .. (إبريل/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -
توقيت
صحوت، ورغبة لطيفة الإلحاح تنتابني، أن أرسل لها على "الإنبوكس" أغنية (حبيبي يسعد أوقاته على الجمال سلطان) من دون أي تعليق، فبالأغنية كل ما أريد قوله لها، بعد انقطاع طويل عن المراسلة، وقبل أن أفعل، صادفتها تشكو في بوست طويل على "التايم لاين" من نصب الصنايعية، وبهدلة "العِزال" من شقة إلى أخرى، وغُلبها في تربية ابنها، ورزالة أبيه الذي يرفض دفع النفقة، ومرار الجري وراء الرزق، وإحاطة الأوغاد بها من كل جانب، فقررت أن أؤجل إرسال الأغنية، وأكتفي بالدعاء.
علامات
وجدت الناس ملمومة بجوار فرع ماكدونالدز في أول صفية زغلول. من مكاني، لم يكن مصدر اللمة واضحاً، وحين اقتربت من مكانها، وجدت عربية فخيمة، تستند إليها سيدة مستطيلة، صبغت شعرها بلون أصفر مريب، تضحك برقاعة مع ضابط مرور شاب، وهي تحاول إقناعه بأن يترك "ونش المرور" عربيتها التي كانت راكنة في الممنوع، من بين كلامها المختلط بضحكات متشنجة، سمعت عبارة "ده احنا معاكو كلنا والله، ونزلنا في تلاتين ستة"، في الوقت الذي كان الضابط يعطيها فيه الرخص لأسبابٍ، لا أظنها تتعلق بالنزول في تلاتين ستة، بقدر علاقتها بالتصاق السيدة به، بشكل لم عليه الواغش من أمثالنا، كان في المكان حالة من العهر المحسوس غير الملموس، كأنه مجاز في قصيدة شاعر شاطر، ولم يكن ينقص الأجواء أبداً أن يصرخ شاب في زميله مشيراً إلى لوحة العربية "الحق يا له بص على النِمر بتاعة العربية"، وأنا وكل من حولي، نظرنا إلى اللوحة التي كان مكتوباً عليها "م ص ي"، فضحك الجميع، وأنا قلت بعدها "سبحان الله"، وطفقت لا ألوي على شيء، ثم "شربت شاياً في الطريق"، ولم أرتق نعلي مرتين لأنه كان جديداً.
مصائر
من فرط حبه غابرييل غارسيا ماركيز، اشترى خلال سفرية للخارج لوحة لغلاف الطبعة الإنجليزية الأولى من رواية (مائة عام من العزلة)، وعلقها في غرفة نومه فوق سريره، على الرغم من اعتراض زوجته التي قالت له إن اللوحة "تفصلها" خلال الجماع، قائلة له إن لوحة "الطفل الباكي"، أو حتى لوحة لأي طبق فاكهة ستكون أفضل من تلك اللوحة الكئيبة، وهو اعتبر المسألة تلكيكة، تداري بها مشكلاتها النابعة عن موروثاتٍ لا علاقة لها بماركيز. بالأمس، عندما التقيته بعد طول غياب، جاءت سيرة اللوحة "ضمن كلام كثير"، ففاجأني أن زوجته أصرت على أخذها مع باقي العفش بعد الطلاق، وبعد برهة صمت، حاولت فيها كتم ضحكي، قال بلوعة "مع إنها ما كانتش مكتوبة في القايمة".
ضاع في الترجمة
كانت الفتاة اللطيفة قد أخرجت كتاب السودوكو من حقيبتها، بعد لحظات من دخولها إلى عربة المترو، فتشت عن قلم فلم تجد. وحين ضبطتني أنظر إليها متابعاً، ابتسمت لي، ونظرت إلى الحقيبة التي أحملها، ثم إلى الكتاب الذي أقرأه، فافترضت وجود قلم معي، وسألتني بابتسامة احتشدت لها "هل يمكن أن أستعير منك قلماً لأسلي وقتي، فأنا لا أحب النوم في المترو"، لم يكن معي سوى قلم أهدته زوجتي لي. أخرجته من الحقيبة، وقلت بإنجليزيتي المتعثرة "طبعاً يمكنك أخذ هذا القلم"، وهي فهمت كلامي بمعناه الحرفي، فقالت بسعادة بالغة "هذا لطف منك، لم يعطني أحد هدية منذ زمن بعيد"، وقبلة المجاملة التي أرسلتها لي في الهواء، جعلتني أمتنع عن توضيح معنى العبارة، كما قصدته، وهي فتحت الكتاب، وغرقت في السودوكو، بينما كنت أفكر هل سيكون من الحكمة أن أعترف لزوجتي بأنني أهديت قلمها الذي أحبه، لامرأة لا أعرف عنها سوى أنها تأخذ الكلام بمعناه الحرفي. 
زاوية رؤية
وقفت أطل عليهما من خلف فاترينة المكتبة، وقد تقارب رأساهما الأصلعان الأشيبان، وأخذا ينظران إلى شيء ما. كان يجلب لهما الهم العميق، كما بدا لي، نظرت إلى المكتبة الخالية من الزبائن، فقلت: لعلهما ينظران إلى حسابات المكتبة المتعثرة، ويفكران في إيجاد حل يمنعها من الإغلاق، كما حدث لمكتبةٍ جارة على بعد ناصيتين. لم تعد بضاعتها من الكتب القديمة تستهوي القراء الجدد، دخلت لأبدي تضامني بشراء كتاب، فوجدتهما منهمكين في حل الكلمات المتقاطعة، هزا رأسيهما بتحية فاترة لي، حين دخلت، وعاودا النظر إلى الصحيفة التي استلبتهما تماماً، فقررت تطوير تضامني إلى إعجاب، واشتريت ثلاثة كتب.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.