قصص تربوية: من الشارع إلى نوبل

30 سبتمبر 2016
علموا أولادكم قصة مايكل فاراداي لبناء مفهوم الإدراة (Getty)
+ الخط -
في خطاب الحصول على نوبل، يقول نجيب محفوظ: "لعلكم تتساءلون، هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال، ما أتاح له أن يكتب القصص؟ وهو تساؤلٌ في محله، فأنا قادمٌ من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها..." ثم يستكمل في نهاية الفقرة قائلاً: "ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف، وكما أنه يعايش السعداء، فإنه لا يتخلّى عن التعساء، ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجول في صدره".

نعم، هناك دائماً فرصة، لم يكن يوماً للظروف والمشكلات المجتمعية والسياسية والاقتصادية دوراً حتمياً في إلغاء قدرتنا على الإبداع والابتكار، كلنا بشر، نتكون من نفس الجوهر الإنساني الفضولي القادر على الإبداع في كل الأماكن وتحت أي ظروف، دعني هنا أعرفك على ماريو كابيكي، الإيطالي الأصل، ابن الملاجئ وعصابات الشوارع طفلاً، والحاصل على نوبل في الطب والفيسيولوجيا سنة 2007 بالتشارك مع أوليفر سميثيز، ومارتين إيفانز، لإسهامهم العظيم في التعديلات الجينية لفئران عبر خلايا جذعية جنينية.

 

ماريو كابيكي

عند الرابعة والنصف من عمره، كان أبوه الطيار في عداد المفقودين وتم إيداع أمه في أحد معسكرات الاعتقال، لأنها اعتنقت مبادئ مناهضة للفاشية خلال فترة الحرب العالمية الثانية، باعت أمه كل ما تملك وأعطته لعائلة من الريف كي تبقي ماريو عندها لأطول فترة ممكنة، لكن الأموال نفدت بعد عام واحد، ولُفظ ماريو الطفل إلى الشارع، يقول ماريو إنه على مدى عدة

سنوات عاش متنقلاً بين عصابات الشوارع والملاجئ، بل واقترب من الموت جوعاً أكثر من مرة، إلى أن وجدته أمه واستطاعت فيما بعد الهروب به إلى بيت عمه في الولايات المتحدة، حيث بدأ هناك حياة أخرى، لكنه، كعادة الكثيرين من الشباب في ذلك العمر، لم يكن يعرف ما يريد حينما دخل الجامعة.

في البداية قرر كابيكي دراسة العلوم السياسية، لأنه رأى فيها طريقاً لحل مشكلات الحرب، ثم لم يجد نفسه فيها، فقرر دراسة الفيزياء والكيمياء، ثم انتقل إلى دراسة البيولوجيا الجزيئية والتخصص فيها، كانت البيولوجيا الجزيئية وقتها فرعاً جديداً للعلوم البيولوجية والطبية وكانت – بتعبير كابيكي – كل الأبواب مفتوحة، ثم انتقل إلى هارفارد التي سماها كابيكي "مكة" البيولوجيا الجزيئية، وحصل هناك على درجة الدكتوراه في الفيزياء الحيوية،  تمكن بعد ذلك من إحراز إنجازه الأهم وهو إمكانية تثبيط جين محدد في فأر ثم متابعة التغيرات الفيسيولوجية الناتجة من تلك العملية، صانعاً ما يشتهر الآن باسم Knockedout mouse، كما اشتهرت أبحاثه في فهم الـ Hox Gene وهو نوع الجينات التنظيمية الإنمائية التي ساعدتنا في فهم بيولوجيا تطور النمو الجنيني.

من كان ليقول إن طفل الشوارع هذا، المغطى بكل تراب الأرض، قد يحصل يوماً ما على نوبل؟ من كان ليصدق ذلك؟

 

مايكل فاراداي

لعل أكثر النماذج غرابة في تاريخ العلم هنا هو مايكل فاراداي، ولد مايكل لأسرة لندنية غاية في الفقر، لم يتلق أي تعليم يذكر في الفيزياء أو الرياضيات، صاحبته مشكلة أثناء مرحلة الطفولة في النطق، حتى إنه كان ينطق اسم أخوه "ووبرت" بدلاً من "روبرت" وكان ذلك يستدعي كثيراً من الضحك والسخرية في المدرسة، حتى إن أحد المدرسين قرر في مرة ضربه بالعصا، وأرسل أخاه للبحث عن عصا في الخارج، فذهب بدلاً من ذلك إلى والدته وأخبرها عن حكاية ضرب مايكل، فذهبت إلى المدرسة، وأخرجت مايكل نهائياً من التعليم، بل إن البعض حسب أن معدل ذكاء IQ مايكل فاراداي هو فقط 110 وهو المتوسط بين البشر، حتى حينما تبين الكيميائي همفري ديفي مواهب مايكل في العلوم، قرر أن يأخذه في رحلة أوروبية، لكن فارادي ذهب معه بصفته خادماً، وعاملته زوجة همفري بوقاحة شديدة. كان كل شيء يقف في وجه فاراداي، كل توقع، كل حجة، كل تعليق من قريب أو بعيد، لكن.. هاهو، مايكل فاراداي، أبو الكهرومغناطيسية، واحد من أشهر العلماء وأكثرهم تأثيراً في تاريخ العلم.

نعم، لا يوجد سبب محدد يخبرنا بخطة واضحة يمكن تنفيذها حرفياً لنصبح عباقرة، فقط القاعدة البسيطة القائلة أن بذل الجهد المنظم في سبيل شيء محدد سوف يكون دائماً ذا نتائج مذهلة، لكن لا يوجد كذلك أي سبب يمنعنا من تحقيق ما نريد من إنجازات علمية أو أدبية أو مهنية... إلخ.


لا يوجد أي ظرف يمكنه أن يمنعك من الاستمرار في التعلم ونهل كل ما تود من المعارف وتحقيق إنجاز ما في هذا العمل أو ذاك. نحن في عصر التواصل، تتوفر كل المصادر الممكنة لتعلم الفيزياء والكيمياء والفلسفة بشكل مجاني، ما يمنعك من الاستمرار هو تصورك أن تلك الظروف التي تحيط بك سوف تقف في طريقك، لذلك فأنت لا تحاول حتى أن تبدأ في التعلم.

في بعض الأحيان يمكن للكسل أن يخدعنا، يمكن له أن يصور الإبداع عملية خاصة، تتطلب ظروفاً مثالية وشخصيات ذكية جداً، بينما نحن لا نمتلك تلك الأدوات، فربما من الأفضل أن نستمر في غفوتنا قليلاً، فلا نتائج مرجوة من بذل أي جهد، قد تمر أعوام كثيرة قبل أن نصطدم بالحقيقة القائلة إنه كان من الممكن أن نحقق ما نريد، سوف يكون ذلك خبراً سيئاً للغاية. لذلك، لتبدأ الآن في محاولاتك، الآن أو لن تبدأ أبداً.

المساهمون