وأنت تسير في أزقّة هذه المدينة التاريخية التي بُنيت على صخرة كلسية كبيرة، وتنتقل من شارع إلى آخر، عبر جسورها التي يمتدّ بعضها على علوّ مائتي متر؛ لن تلتقي مظاهر كثيرةً تُوحي بأن قسنطينة هي "عاصمة الثقافة العربية 2015".
لا شيء تقريباً يوحي بذلك، سوى حرف "القاف" الكبير المعلّق على عددٍ من المباني والهيئات الرسمية، متوشّحاً ألواناً مختلفة. يحاول الحرف اليتيم إثارة انتباه المارّة، كما أثار جدلاً منذ اعتماده شعاراً للتظاهرة، بسب الاتّهامات التي طالت مصمّمه بسرقة فكرته، والانتقادات بأنه يفتقد إلى جمالية التصميم، ولا يعكس روح المدينة وتظاهرتها الثقافية.
مرّت أربعة أشهر على انطلاق التظاهرة، وهذا يعني أن ثلث وقتها انقضى. لكن الجوّ العام في المدينة لا يعكس ذلك. لا تزال الحركة الثقافية فيها تسير بتلك السرعة التي يُفترض أن تسير بها في الأيّام الأخرى، خارج احتفالية بحجم "عاصمة الثقافة".
أمّا الناس، فيبدو أنهم لم يعودوا بنفس الحماس الذي كانوا عليه عند اختيار مدينتهم لاحتضان "الحدث الثقافي الكبير". أُقيم الحدث في "وادٍ آخر"، ولم تنجح جسور المدينة الكثيرة في ربطهم به. وإن سألت أيّاً منهم عن رأيه، فستسمع هذه الإجابة: "نحتاج إلى الثقافة أوّلاً.. وبعدها إلى عاصمة الثقافة".
تتجّه إلى المسرح الجهوي، أو إلى دار الثقافة، أو إلى أيّة هيئة ثقافية أُخرى؛ متوقّعاً أن تجد نشاطاً ثقافيّاً بالضرورة، لكنك تُفاجَئ بعدم وجود شيء من ذلك. فالنشاطات تُقام بـ "التقطير"، وقليلاً ما تنجح في استقطاب جمهور من خارج الضيوف الرسميّين.
خلال الشهور الماضية، أقيمت نشاطات كثيرة، لكن بعضاً منها فقط شهد حضوراً كبيراً، منها الافتتاح الرسمي للتظاهرة، والحفل الذي أُقيم في حزيران/ يونيو الماضي بحضور فنانين جزائريّين وعرب، تكريماً لوردة الجزائرية، في الذكرى الرابعة لرحيلها.
أثار الحفلُ هرجاً ومرجاً واكتظّت "القاعة الكبرى أحمد باي" بالمدعوّين، بينما بقي كثير منهم في الخارج؛ فقد شهدت القاعة "إنزالاً" رسميّاً غير مسبوق، وبيعت تذاكر الحفل في السوق السوداء بأضعاف ثمنها.
الأسابيع الثقافية العربية هي أحد التقاليد التي تُقام في ظلّ عزوف شبه تامّ للجمهور؛ حيث تشارك دولة عربيّة ما "بمن حضر" وبما توفّر من أسماء وعناوين ومعروضات فولكلورية، يُلقي وزيرا الثقافة كلمات رسمية يتبادلان فيها المجاملات والحديث عن العلاقات المتينة والتاريخية والأخوية التي تربط البلدين، وضرورة دفع التبادل الثقافي بينهما، ثم ينصرف كلّ إلى طريقه، ويستمرّ الأسبوعُ وسط جدران مغلقة.
في الأسبوع الثقافي للسودان، قبل أيّام، كان الجمهور ضئيلاً جدّاً، أمّا في اختتامه، فلم يتجاوز الحاضرون عدد أصابع اليد الواحدة. وجد وزير الثقافة السوداني نفسه وحيداً، دون حضور أيّ من مسؤولي الثقافة، حتى المحليين منهم.
ثمّة خلل ما، أقلّه في الاتّصال. من الواضح أن إدارة التظاهرة لا تقوم بجهد كافٍ للترويج للنشاطات والفعاليات المقامة في المدينة، ولا تمدّ جسور الصلة مع عامّة الجمهور، لإعلامهم بشكل متواصل عن تفاصيل برنامجها، فضلاً عن الفوضى الكبيرة التي شابت اعتماد الصحافيّين لتغطيتها.
بإمكان أيّ شخص أن يدلف إلى الموقع الرسميّ للتظاهرة، ليقف على خوائه الذي لا يتناسب مع تصميمه الجميل. فبرنامج التظاهرة توقّف عند نهاية تمّوز/ يوليو الماضي، أمّا الصفحة الرسمية على "فيسبوك"، فلا تُحدّث إلاّ لماماً.
خلال زيارته إلى قسنطينة مؤخراً، تحدّث وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، عن الاتّجاه إلى اعتماد مخطّط عمل جديد، من أجل "إضفاء رؤية أحسن على نشاطات التظاهرة"، قائلاً إنه يجب القيام بمجهود إضافي في الاتصال والإعلام.
ينطوي الكلام على اعتراف بوجود نقص أو خلل في هذا المجال، بشكل أثّر على هدفها الأساسي، وهو الترويج للمدينة وثقافتها، وللثقافة الجزائرية بشكل عام.
لكن هل بإمكان الوزير فعل شيء حقاًّ؟
لم يتبقّ من التظاهرة سوى ثمانية أشهر، وقد تمضي كما مضت سابقاتها، وقد يفضّل ميهوبي البقاء "جنب الحيطة"، في هذا الوقت المتبقّي، بدل الدخول في مواجهة غير محسوبة العواقب مع مدير التظاهرة "القوّي" و"النافذ"، سامي الحسين بن الشيخ، الذي يعلم الكثيرون في المشهد الثقافي أن السبب الحقيقي لإقالة وزيرة الثقافة السابقة نادية لعبيدي كان خلافها معه، وليس الجدل الذي أثارته اتّهامات رئيسة "حزب العمّال" لويزة حنّون لها بالفساد.
صحيحٌ أن حنّون شنّت حرباً ضروساً على الوزيرة بلغت وصفها بأنها "رئيسة عصابة"، لكن وزراء كثيرين واجهوا اتّهامات أشنع وبقوا في مناصبهم.
إلى جانب بن الشيخ، ثمّة رجل قويّ آخر هو نائبه لخضر بن تركي، مدير "الديوان الوطني للثقافة والإعلام" الذي يصفه البعض بـ المدير الثاني، قائلين إن الاحتفالية تسير برأسين.
ليس الصراع بين الرجلين خافياً، ولا التداخل بين مهامهما، وليس مستبعداً أن يُحمِّل كلّ منهما الآخر مسؤولية أيّ إخفاق محتمل.