ما بين دعوات هنا تطالب جماعة الإخوان بالتراجع وإعلان الانسحاب من الحالة السياسية الحالية تضميدا لجراح ملتهبة، وتصريحات لساسة محسوبين على المعسكر المناهض للجيش وانقلابه، يتنادون على الملأ أن هلموا إلى انتخابات رئاسية مبكرة طمعا منهم في إنقاذ ما تبقى من مشهد مهلهل، لعل في ذلك المنجاة لما ألمّ بالبلاد والعباد من نكسات وسقطات وخلجات يستغرق ترميمها أزمنة عديدة.
بداية من المناداة بعدم جدوى صراع الإخوان والعسكر، في ظل امتلاك الدولة للقوة والسلاح والعتاد في مواجهة تنظيم سياسي في المقام الأول قائم على السلمية وداع إليها، على الرغم مما علق به طيلة الأشهر الماضية من بعض الأعمال التي وجهت ضد بطش السلطة، وباتت باعث قلق على مسار التنظيم وعلاقته وتنظيره للعنف من أساسه، وانتهاء بتصريحات السياسي البارز أيمن نور والتي رحب فيها بخوض الانتخابات الرئاسية المبكرة أمام عبدالفتاح السيسي وهو الذي قال سلفا في حوار له منذ أسابيع مع الكاتب ديفيد هيرست إنه يرغب في العودة إلى القاهرة سريعا.
بات التساؤل الملح لماذا لا يتراجع الإخوان وتغلق معهم تلك الصفحة من الصراع الدامي الدائر الآن في القاهرة وخارج أزقتها وحواريها؟ وفي ذلك دلالات جمة.
الإخوان والإرث التاريخي..
يمتلك الإخوان إرثا تاريخيا يقارب نصف تاريخ الدولة المصرية الحديثة وجيشها، تضمن هذا التاريخ صولات وجولات. نكبات ونجاحات، هنات هنا، وتميزات هناك، صفقات بين السطور، ونجاحات لا ينكرها أحد، في فلسطين خارجيا وفي عوالم السياسة داخليا، ما بين النقابات والجامعات والعمال والعمل الاجتماعي والدعوي والديني وغيرها من مآرب الحياة ومقاصدها، كان الإخوان قابعين فاعلين وأعينهم نحو التمكين، ولا غضاضة في ذلك، وما السياسة إلا حلبة صراع نحو بسط الأيادي والتمكين وتنفيذ المشروع، وإن لم يكن هذا الإرث مبعث فخر وكبرياء للتنظيم، فهو كالعبء الاجتماعي والأدبي والمعنوي والذي يدفع التنظيم إلى تحمل مسؤوليته التاريخية أمام الجيل الحالي والأجيال المقبلة في صراعه الحالي مع العسكر.
المنطق العقدي في تدوير الصراع..
لا شك أن الباعث العقدي الذي يتكئ الإخوان عليه في مشروعهم الديني والسياسي كل على حد سواء، من أحد الدوافع القوية للمضي قدما في الصراع الحالي، خصوصاً أن إحدى مفردات هذا الباعث، أنه إن وقع خطأ فلهم الأجر وإن أحسنوا ونجحوا فلهم الأجران، ولم لا، فهم طيلة الوقت في حالة اجتهاد، والمجتهد يثاب ولا يعاقب.
الجانب الآخر، وهو لا ريب يطعن كل رافض لتحركاتهم السياسية، أن الأوطان في حاجة إلى تضحيات، وأن انتشال الوطن من وحل الانقلاب يحتاج إلى تضحيات بالملايين على غرار تجارب التحرر من المستعمر، مع الفارق بين تحرر المستعمر والتخلص من عسكرة الحياة السياسية، وهي ليست بطبيعة الحال بعيدة.
إن لم يكن أنا لها فمن يكون؟
مع اشتداد الصراع الحالي الدائر بين الإسلاميين وفي القلب منهم الإخوان، والعسكر، وما تلاه من مجازر عصية على النسيان، بدا التنظيم ولسان حاله، يذهبان نحو تقريع المخالفين لهم خصوصاً بعدما تكشف الكثير ممن كانوا محسوبين على الحس الوطني والمناهض للسلطة، واستتباب الأمر لقناعات الإخوان باعتبارهم على طريق الصواب المطلق في مواجهة الانقلاب وروافده.
أحد هذه البواعث الحقيقية لترسيخ ذلك هو عجز الطرف الإقليمي أو حتى الغربي عن أن يضع أوزار الصراع الحالي ويقضي على الإخوان أو على الأقل عجز عن إيجاد بديل قوي للإخوان، أو حتى خلق حالة شعبية ليبرالية أو حتى علمانية تحل محل الإخوان سياسيا.
النموذج الوسطي في مواجهة البدائل المتطرفة..
مع انهيار أول تجربة ديمقراطية في القاهرة، على يد حفنة من العسكر آلمهم الاقتراب من معسكرهم الاقتصادي فقرروا ابتلاع البلاد بالكامل، غير آبهين لمآلات جرائمهم، بدا أن تعويل الناس على نموذج سياسي ذي رائحة إسلامية وسطية قد تبدد وبات الأمل معقودا على الجماعات الأصولية الراديكالية المتطرفة كداعش وأخواتها، لتطبيب القلوب جراء التشفي البغيض من معسكر الانقلاب، والانتقام من رصاصات الانقلاب التي دمرت وخربت البيوت، وقتلت أرباب البيوت، إلا أن استمرار الإخوان في الحراك السياسي ورفضهم بشكل علني وصريح حمل السلاح في مواجهة الدولة وتبني الخيار المسلح بشكل واضح، بغض النظر عن مدى علاقة الإخوان بجماعات العنف الحالية، وهو ما يحتاج إلى التناول مفصلا في مقالة أخرى، جعل البعض يترحم على التجربة الإخوانية في الحكم، ويرسخ لدى الإخوان قدرتهم الحقيقية على ابتعاث الحالة الوسطية مرة أخرى في مواجهة التطرف الحالي.. هكذا ينظر التنظيم إلى قناعاته.
إذا أين الآخر؟!
ثمة بواعث، وليست جلها تلك التي رصدناها بالأعلى، ينطلق منها الإخوان في صراعهم الحالي، وتدفعهم دفعا نحو الاستمرار وليس التقاعس أو الانسحاب أو حتى البحث عن تسوية مرضية لطرفي الصراع الحالي.
إلا أن ثمة تساؤلاً حقيقياً.. ففي الوقت الذي تتعالى فيه تصريحات المعسكر المحسوب على الانقلاب من ساسة وكيانات وأحزاب، رافضة التصالح مع الإخوان أو حتى مجرد عودتهم إلى الحياة السياسية، وإغلاق الملف بالكامل رحمة بالبلاد والعباد، انكفأت تلك الكيانات على نفسها واكتفت بمجرد الشتم والسب للإخوان والتشفي في قتلاهم دون أن يخرجوا علينا ويقولوا هل إذا تراجع الإخوان وأعلنوا لملمة أوراقهم وغلق صفحة الصراع الحالي، هل يتراجعون هم ويعلنون توبتهم من تحريضهم على القتل والمشاركة في انقلاب عسكري بل والتآمر على تجربة انقلابية واستدعاء العسكر إلى الساحة السياسية رغبة في الإطاحة بالإخوان وكرها لوجود تيار ديني على رأس سدة الحكم في مصر؟.
التجارب تقول لن يفعلوها حتى وإن ترك الإخوان الديار مهاجرين بغير رجعة.
(مصر)