لعل إحدى أهم مناطق التفاوت بين البلاد العربية والغرب هو حيوية الفكر السياسي. لكن هل تكفي استعادة نظريات كبار مفكّري السياسة من إيطاليا إلى أميركا لنحصل على فضاء عام يتّسم بنفس الحيوية في تقديم الحلول؟
هذا التساؤل تناوله منير الكشو، أستاذ الفلسفة السياسية في الجامعة التونسية، ضمن محاضرة له ألقاها ليلة الأربعاء الماضي في مقر جمعية "هيبة المواطن" في تونس العاصمة، تحت عنوان "نظرية العدالة الاجتماعية عند جون رولز".
انطلق الكشو من إضاءة مشهد النظريات السياسية في الفكر الأنجلوسكوسوني باعتبار أن مساهمة رولز (1921 - 2002) أتت ضمنه ولا يمكن فصلها عنه. من خلال تجربته كمترجم لأعمال من الفلسفة السياسية إلى العربية، مثل "أخذ الحقوق على محمل الجد" لـ رونالد دووركين و"مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة" لـ ويل كيملشكا، يشير الكشو إلى أنه لا بدّ لفهم الفكر السياسي من فهم طبيعة الجدالات داخل هذا الحقل والرهانات فيه.
يقول: "نتحرّك في الجامعة التونسية داخل التقليد الفرنسي وفيه ندرس أعمال فيلسوف ما كوحدة تحيل إلى نفسها، أي أن الفلسفة تعليق متواصل على تاريخها. لكن في التقليد الأنجلوسكسوني نجد أن كل فيلسوف هو جزء من تيار، إذ ينقسمون بين ليبراليين وجمهوريانيين وجماعاتيين ومنفعيين وغيرهم".
ينبّه الكشو إلى أن النظر إلى هذه المدارس لا ينبغي أن يكون من مواقع نظر التقليد الفرنسي، كما لا يمكن ذلك أيضاً من خلال استعمالات المصطلحات في العربية إذ تختلف من بلد عربي إلى آخر، فالليبرالية مثلاً - وهي المدرسة التي ينتمي لها رولز - نجد لها مستويات مختلفة للتعريف لا تقابل المعنى الأميركي الذي يعتبر بأن الدولة ليس لها مهام توزيعية للثورة لينحصر دورها في ضمان العدالة والسهر على الأمن.
يؤكد الكشو أن هذه المدرسة تدافع عن قيمة المساواة وليس عن الحرية، لذا فهي تصنّف في يسار الوسط (المدافعون عن قيمة الحرية هم اليمين)، مبيّناً أن ذلك لا يعني أنها تتساوى مع الاشتراكية، وكان رولز قد اشتبك مع هذه الفروقات حيث أن الاشتراكية تعمل على إعادة توزيع الدخل بينما يبحث الليبراليون عن المساواة في الحظوظ من خلال التربية والإمكانيات الأساسية لاختيار نمط العيش والنشاط الاقتصادي.
يرسم الكشو مشهد مؤلفات رولز الأساسية، فكتابه "نظرية العدالة" (1971) كان مواصلة لعمل بطيء ودؤوب هو "العدالة كإنصاف" (1958) والذي أعاد صياغته في نهاية حياته. حاول رولز التأسيس لمبدأ الاختلاف ضمن رؤيته للعيش المشترك حيث أقامه على عنصرين: أن الفوارق الاجتماعية مقبولة حين تكون مرتبطة بمواقع مفتوحة للجميع، وأن تحسُّن وضع الأكثر حظوة يقابله تحسّن وضع الأقل حظوة، والتي يعتبرها ضمانات مجتمع مستقر (ديمقراطي مُعلْمن) يوفّق بين المساواة والحرية.
يقارن الكشو في نهاية محاضرته بين ارتباطات الحياة السياسية بالفكر السياسي في أميركا وتونس، ففيما يرتبط في الأولى بقيم وتيارات تدافع عنها، يرتبط في الثانية بمصالح قد تكون مجرد استراتيجيات انتخابية.
من جهة أخرى، وضمن النقاش الذي تلا المحاضرة، يؤكد الكشو أننا حين نقرأ رولز ينبغي أن نفهم بأنه لم يقدّم نظرية إلا للمجتمع الأميركي، إذ يؤكد صاحب "العدالة كإنصاف" أن المادة التي اشتغل عليها هي الدستور الأميركي وتأويلات المحكمة العليا له، ومنها استخرج نظريته السياسية.
من هنا، يعتبر الكشو أن "عمله لا يمكن أن يتحوّل إلى نظرية كونية، ونفس الشيء نجده مع الألماني يورغن هابرماس حيث أن نظرياته كانت في إطار المجتمع الألماني وانتقاله من النظر إلى الماضي نحو البناء الأوروبي".
هذه النظريات، بحسب الكشو، ليست سوى قاعدة فكرية ننطلق منها، ينبغي أن يقابلها عمل تأسيسي على واقعنا، وقبل ذلك تطوير الثقافة المدنيّة في البلاد والتي ينبغي أن تقدّم معارفٌ شتى إسهاماتِها فيها مثل علم الاجتماع والتاريخ، والفلسفة التي ينبغي تجاوز تاريخها إلى الحاضر".
يطبّق المحاضر شيئاً من فكر رولز على المجتمع التونسي، فيعتبر بأن قيمة المساواة تتجذّر أكثر فأكثر فيه، حتى أنه اليوم يمكن القول أن الموانع الإثنية والجنسية وغيرها آخذه في الذوبان. لكن في مقابل ذلك، يشير إلى مشكل آخر، وهو أن تونس تعاني اليوم من تعطّل المصعد الاجتماعي لأسباب مختلفة، وهي حالة تشير إلى وضع تكون فيه المساواة والحريات متوفرة ولا نستطيع استخدامها.