قدرة إسرائيل بعد غزّة
ما يقلق القادة الإسرائيليين، هذه الأيام، هو الشعور المتزايد بعجز جيشهم عن تحقيق النصر في الحرب مع المقاومة، بل إن ما أثار رعبهم وأصابهم بهستيريا غير مسبوقة، هو انكشاف هذا العجز في عدوانهم أخيراً على قطاع غزة، المحاصر منذ سنوات، والذي لا تتعدى مساحته الـ640 كلم مربع، والذي لا توجد فيه جبال ولا وديان. وعلى الرغم من الاختلال الحاد في موازين القوى بين الجيش الإسرائيلي، الذي يُعتبر من أقوى جيوش العالم، والمقاومة الفلسطينية، محدودة القدرة العسكرية، ومع ذلك، فقد أخفق هذا الجيش إخفاقاً مدوّياً بعدما علق في فخ المقاومة التي أجادت خوض فنون حرب عصاباتٍ متطورة في مواجهته، وتكبيده خسائر كبيرة في الأرواح.
ومثل هذا الانكشاف في عجز القدرة العسكرية الإسرائيلية عن تحقيق النصر وحماية الأمن الاسرائيلي، أدى إلى نتيجتين سلبيتين لـ"إسرائيل" وحلفائها: إضعاف الموقف السياسي للحكومة الإسرائيلية، في المفاوضات غير المباشرة مع المقاومة، والذي تمثّل في اضطرارها للقبول بمعظم شروط المقاومة لوقف إطلاق النار، وإحداث زلزال في الوعي الإسرائيلي، إلى درجة أن المستوطنين الصهاينة فقدوا ثقتهم بقدرة جيشهم على تحقيق الأمن لهم، ما أدى إلى تصدّع الجبهة الداخلية، وانكشاف عدم قدرة المستوطنين على تحمّل حرب استنزاف، وتحوّلهم إلى قوة ضغط على حكومتهم، بدلاً من أن يكونوا قوة دعم وإسناد لها في الحرب.
وانعكاسات ذلك على مستقبل إسرائيل والصراع العربي ـ الصهيوني، ودور إسرائيل وموقعها في المنطقة، هو ما يثير الهاجس الأكبر لدى صنّاع القرار في إسرائيل. فعلى صعيد المستقبل، فقد وُجِّهت ضربة قاصمة لفكرة أن إسرائيل تستطيع أن تعيش باستقرار وازدهار، بعيداً عن التأثر بأي حرب تشنّها، ونجاح المقاومة الفلسطينية في غزة في دق الإسفين في نظرية الأمن الإسرائيلية، وتكريس معادلة جديدة في الصراع مع الاحتلال على أرض فلسطين المحتلة، لأول مرة في تاريخ الصراع. فوجود مقاومة داخل فلسطين امتلكت قدرة صنع هذه المعادلة، واسقاط منظومة الأمن الصهيونية، أدى إلى هزّ مرتكزات وجود إسرائيل من جذورها، وحطّم كل البناء الفكري الذي جرى زرعه في عقول المستوطنين وحفّز على هجرتهم إلى فلسطين، وهو أن إسرائيل تملك قوة لا تُقهر وأنها قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار لهم، وتوفير كل أسباب الراحة والرفاه والطمأنينة، وتحويل إسرائيل إلى بلد المن والسلوى الذي يحلم به اليهود الذين جرى استقدامهم من دول العالم. وقد أدى سقوط ذلك كله في العدوان الأخير على غزة، إلى إحداث انقلاب في المعادلة، بتحوّل إسرائيل إلى جحيم للمستوطنين، وبالتالي، دفعهم إلى الهجرة المعاكسة، والعودة إلى بلدانهم التي جاؤوا منها، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إضعاف الحوافز لدى اليهود في الخارج للهجرة إلى فلسطين.
ولمثل هذا التطور تأثير كبير على مستقبل وجود إسرائيل، حيث يعبّر قادتها وخبراؤها عن قلقهم المستمر من خطر ما يسمونها القنبلة الديمغرافية، حيث تزداد أعداد الفلسطينيين المقيمين في داخل فلسطين، بفعل النسب العالية في الولادات، وتتراجع أعداد الإسرائيليين، بسبب قلة الولادات وازدياد الهجرة المعاكسة.
ويحصل ذلك كله في وقت سقطت فيه خطط القادة الصهاينة لدفع الفلسطينيين إلى هجرة أرضهم، عبر ارتكاب المجازر بحقهم، على غرار ما حصل عام 48، حيث واجه الفلسطينيون المجازر الأخيرة في غزة، والتي فاقت في بشاعتها وحجمها تلك التي ارتكبت عام 1948، بتأكيد صمودهم في أرضهم، ورفض الرحيل عنها.
على صعيد الصراع العربي ـ الصهيوني، أدى فشل الجيش الإسرائيلي في الانتصار على المقاومة في قطاع غزة إلى انعكاسات مباشرة على مستقبل الصراع العربي ـ الصهيوني، حيث عبّر الخبراء والمحلّلون الصهاينة عن ذلك بوضوح إزاء أي حرب مقبلة قد يخوضها الجيش الإسرائيلي في مواجهة المقاومة.
والاستنتاج الذي خرج به المحللون، بعد فشل العدوان على غزة، أن استعداد إسرائيل لشن حرب ضد المقاومة تراجع كثيراً، ولم يعد مُدرجاً على سلّم الأولويات الإسرائيلية، لأن مَن لم يستطع الفوز في الحرب ضد المقاومة في قطاع غزة، على الرغم من كل الظروف المواتية لمصلحة الجيش الإسرائيلي من جميع الوجوه، فإنه، بالتأكيد، لن يكون قادراً على تحقيق الفوز مستقبلاً.