قداسة الترجمة

24 ديسمبر 2018
تفصيل من عمل لـ روبرت ماذرويل
+ الخط -

نشأت الفنون في حضن المقدّس، ومنها الكتابة التي مورست في المعابد قبل خروجها إلى الفضاءات العامّة ودخولها المؤسّسات التعليمية. وكانت نتيجةُ تطوُّر ممارستها وانتشارها في العصور الحديثة اعتبارَها من قِبل الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير ممارسةً تتحرّك بدافع الاحتجاج على تدنيس ما.

ولا يخفى أن المجال الديني هو الذي أضفى القداسة على الكتابة والترجمة كلتيهما، بخلاف الفلسفة التي سعت منذ بداياتها إلى الالتحاق بالشارع والنزول إلى البسطاء، والخوض معهم في إشكالاتها؛ فالمعروف أن فلاسفة اليونان، وعلى رأسهم سقراط، كانوا على صلة بالناس؛ يحاورونهم ويشركون المهتمّين منهم في قضاياها التي كانوا يطوّرون البحث فيها انطلاقاً من الإجابات التي يقدّمها إليهم البسطاء.

ولأن قضايا الترجمة من قضايا الكتابة، فلا غرابة في الذهاب إلى أن الترجمة، بصفتها نشاطاً بشرياً وحاجة ضرورية، قد وُلدت هي الأخرى في سياق انتهاك المدنّس للمقدّس، وأن مسرحها الأول كان فضاء الشتات البابلي، لأنها مثّلت ردّة فعل على العقاب الإلهي، وبيّنت نزوع المدنّس إلى تحطيم المقدّس، لتصييره دنيوياً.

ومعروفٌ أن الكنيسة، تاريخياً، وقفت في وجه ترجمة الكتاب المقدّس، لرغبتها في احتكار المعرفة به، طالما أن المعرفة سلطةٌ، وأن الأخيرة تمنح امتيازات للمتحكِّم فيها. لذلك، جوبهت محاولات مارتن لوثر وتابعيه من المترجِمين بالمضايقات والملاحقات والمحاكمات، في محاولة شبيهة بمن يسعى إلى جمع ماء المحيطات بالشباك. ولا يمكن أن يُفهم اعتراض الجاحظ على ترجمة الكتب الدينية، وخصوصاً القرآن، إلّا ضمن هذا المنحى، ولو أن السياق مختلف.

وجليّ أن المترجِمين أفلحوا تاريخياً، خصوصاً في العصر الحديث، في أن ينتزعوا حقّهم، في إسقاط القداسة عن نشاطهم، وإصرارهم على أن يخوضوا في دنسها، بأن يمارسوها بقيمها الدنيوية التي تتيح لهم ربط أواصر مع الآخرين، وبما تتيح من استتباب الأمن والتفاهم وبناء عالم المحبة والصداقة، مع التركيز على تجاوز الأحكام المسبقة والمصادرات، بإذاعة المعرفة بين الناس جميعاً. وبذلك نجحوا في التقريب بين الناس، وأظهروا أنفسهم مستعدّين للإبداع فيها، فكان لها الانخراط الحقيقي في عالم الحداثة، الذي دشّنه الألمان على لسان غوته الذي دعا إلى تاريخ للأدب العالمي.

ولم تتردّد الجامعة الحديثة في الانخراط في هذا المشروع الإنساني، فمارس أساتذتها في الغرب أساساً الترجمة، وكانت بوّابةُ الأدب المقارن مدخلاً رئيساً إليها، فنُزعت عن المعرفة صفة المضنون به على غير أهله.

صحيحٌ أن المترجمين وُجدوا قبل الجامعة، وأبدعوا في ما أنتجوا، دون حاجة إلى التكوين فيها، لكن إحداث الجامعات وظهور الدراسات الترجمية فيها، صيّر التكوينَ عقلانياً وناجعاً وسريعاً وخاضعاً لمشاريع تخدم مصالح المجتمع.

ورغم ذلك، فإن القداسة تأبى إلّا أن تتخفّى خلف أقنعة متنوّعة لإجهاض الترجمة، عبر ادعاء عدم فهم نصوص منها، مثلاً، فيحصر أنصارها الأمر في الفهم وحده، وينسون أن الفهم في الفنون ليس شرطاً ضرورياً، والدليل هو الفن التشكيلي الذي يحدث أن نستمتع به دون أن نطرح سؤال الفهم.

كما تتوارى القداسة خلف قناعَي "الهوية" و"الأصالة"، فتدّعي دنس الترجمة، لكونها مسكونةً بالرغبة في التشويش على سكينة المجتمع عبر اتهامها بإدخال البدع والجدّة، وتحريك الأفكار، لذلك لا تتردّد في إدراج البعد الأخلاقي، فتمارس الوصاية على القراءة في المجتمع، بالذهاب إلى أن هذه الكتب لا تصحّ ترجمتها في مقابل أخرى تراها مفيدة، بينما ترى أن من الأفضل أن لا يُترجَم بعضُها الآخر.

والأكيد أن الإصرار دوماً على مبدأ "عدم قابلية الترجمة"، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالشعر، هو تجلٍّ صارخ لأيديولوجية القداسة التي تروم إحباط هذه الممارسة، لما يطبع هذا الجنس الأدبي من جرأة وتحدّ دؤوب للسلطة والأعراف.

دلالات
المساهمون