قبل إسدال الستارة بقليل

24 يوليو 2017
+ الخط -
تقدّم العمر بالفنانة المحبوبة، سميرة توفيق، حقيقة ليس لأحدٍ إنكارها، ولا يمكن سوى الاعتراف بأن تلك الصبية الممتلئة صحة وعافية، ذات الشعر الأسود الفاحم، المسترسل على جانبي الوجه الجميل، المتميز بالشامة الكبيرة المتربعة على الخد، والابتسامه العريضة الواسعة، تلك الشابة التي ألهبت خيال العشاق، باتت امرأه مسنة متعبة، ثقيلة الوزن، صعبة الحركة، مرتجفة الأطراف، زائغة النظرات، تعاني شأن أبناء جيلها من أمراض (واستحقاقات) الشيخوخة القاسية المؤلمة التي لا تفرّق بين الناس، ولا تمنح لأي منهم، لشديد الأسى، استثناءاتٍ من أي نوع. كأس من مرار حتمي، يذيقه الزمن لنا، بعدالةٍ تامةٍ، غير منقوصة.
سميرة توفيق التي مضت على أيام صباها ونجوميتها وشهرتها عقود، بقيت فيها أيقونة للجمال الطبيعي والأنوثة الصارخة بلا ابتذال، ونموذجاً لخفة الظل والعفوية التي ميّزتها عن فنانات عصرها، بلونها الغنائي الخفيف، وهي تردّد ببهجةٍ طفولية، وفي تبسيطٍ رشيق لحالة العشق، ترافقها دقات الطبل الصاخبة "لا باكل ولا بشرب بس بتطلع بعيوني".
الصدمة التي أصابت كثيرين لها ما يبرّرها، حال ظهور سميرة توفيق الأخير في لقاء تلفزيوني رمضاني مطوّل، تحدثت فيه بحنين كبير ووفاء عميق عن أيام الصبا والنجومية والشهرة والثراء. وكذلك اشتراكها، أخيراً، بصوت متعبٍ أوهنته السّنون، وذاكرة ضعيفة مرتبكة، لا تكاد تتذكر الكلمات في فقرةٍ رئيسية في حفل عيد الاستقلال في الأردن، استعادت فيها ما تيسّر من أغانيها الجميلة المحفوظه في الوجدان، وهي المستمدة من الموروث الشعبي. حزن الجمهور، لا سيما الرجال، ممن احتفظ بصورتها امرأة باذخة الجمال، فائقة الحيوية، لا تخلو من شقاوةٍ وقدرة على إطاحة المريدين بغمزة عين كحيلة كفيلة بجندلة أعتى العشاق ممن أصيب بلوثة تلك الصبية الحسناء المختلفة، بأثوابها الفلاحية المزركشة، وجعلت منها رمزا عربيا يعبر عن جمالٍ بدوي أصيل متفرّد بصفاته.
قبلها، ظهر الفنان صباح فخري بشكلٍ مؤسف، مثير للرثاء والشفقة، بخفةٍ وعدم اتزان، لا يليقان برصانته المعهودة ملكا متوجا بلا منازع في عالم الطرب الأصيل. أطل في حفل كبير متهالكا، هدّه المرض والكبر، وقد بدت آثار الجلطة التي ضربته واضحة، فأثرت على مداركه، ما اثار غضب جمهوره العريض الذي دان نجل الفنان الكبير الذي سمح باستباحة صورة والده بتلك الفجاجة المهينة، والتي تم التحايل عليها بادعاء التكريم، فيما هي ليست أكثر من فرصة سانحة للتكسّب غير المشروع على ظهر الوالد المغدور، في تعبيرٍ صارخ عن العقوق بأبشع صوره.
وأخيراً، ثار جدال واسع إثر الإعلان عن أغنية جديدة لفيروز، منسوخة مقلدة، بالغة الضعف والركاكة، بتدبير ابنتها ريما رحباني، وترتيبها وإشرافها، فبالغت هذه في الإساءة لتاريخ والدتها العريق وتشويهه، بمغامرة فنية، فاشلة ضمن كل المقاييس.
من أجل ماذا، يجحد الأبناء بآبائهم من كبار النجوم؟ هل هو انتقام يدفعه اللاوعي لهؤلاء الأبناء الذين عاشوا طفولةً ليست سوية بالضرورة في ظل شهرة آبائهم المدوية التي تجعلهم غير واثقين بأنفسهم غير المتحققة الغاضبة، وربما الرافضة التي تحسّ بغيرة دفينة من منجز ذويهم الذي فوّت عليهم، في أحيانٍ كثيرة، فرص التعبير الحر عن قدراتهم الخاصة، وحتى لو أن أحدهم اشتهر وحقق تميزا ما، فإنه يظل غير واثقٍ من حقيقة وجدية نجاحه المتكئ حكما على شهرة ذويه، ما يفسّر الاضطراب النفسي الذي يصاحب أبناء المشاهير، ويدفعهم إلى سلوكيات جشعة غير متزنة، يقع ضحيتها النجوم الكبار في لحظات ضعفهم، وقد بلغوا من العمر عتيا، وفقدوا الأهلية والقدرة على اتخاذ التصرّفات التي تحفظ مكانتهم وهيبتهم، وتبيح لهم اختتام مسيرتهم الفنية الطويلة، كما يليق بهم، وذلك بالتنحّي الذكي في اللحظة المناسبة، في ذروة اشتياق الجمهور، مخلفين في الأرواح أثرا عميقا مدويّا تماما، مثل ضربة المايسترو البارع الأخيرة الحاسمة، قبل إسدال الستارة بقليل.
دلالات
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.