قاموس الوطنية

09 أكتوبر 2015
ذكرى أكتوبر للوطن أم للمواطن؟ (مواقع التواصل)
+ الخط -
الوطنية بين المصطلح والواقع
تقول الموسوعة البريطانية: (من الشائع الاعتراف بأن هذه الفكرة - الوطنية - ساهمت في صياغة الحياة العامة والخاصة، وأنها واحد من أكبر العوامل التي شكلت التاريخ الحديث).


لا شك أن مصطلح الوطنية في حد ذاته في بلادنا بات يحتاج إلى تعريف، خاصة إن لم ينظر له إجمالاً على أنه (حب الوطن) فقط.

فماذا عن هؤلاء الذين لا يحبون أوطانهم لسبب أو لآخر؟ هل يعتبرهم المجتمع خارجين على القانون لكونهم "ليسوا وطنيين"!

هناك حالة عشق متبادل ما بين الفرد والمكان الذي نشأ فيه، فالوطن هو ذلك العامل المشترك ما بين الزمان والإنسان، وهو بلا شك عامل يشكل وجدان الفرد وخريطة مشاعره وأحاسيسه، وربما شخصيته برمتها، فما الذي حدث؟!

كارهون للوطن.. أم للحظة التي يعيشها
في أوطاننا وارفة الظلال، يتحول الفرد من إنسان إلى "مواطن"! نوع من الضريبة الإجبارية التي تُفرض عليك فرضاً، كي تلتصق بالوطن التصاق الفخذين لمن يعاني سمنة مفرطة!

فكلاهما لا يطيق الآخر، وعادة لا يؤدي احتكاكهما طويلاً إلى خير، فلم يعد الوطن يطيق مواطنيه، وفي "موطننا" الأم مصر تجد أصحاب صكوك الوطنية من الإعلاميين يعلنوها مدوية "اللي مش عاجبه يسبها ويمشي"!، غاضب هو من هؤلاء الذين يطاردون أحلاماً بسيطة كي يعيشوا بكرامة في "وطنهم" فيتظاهرون من أجلها، في حين لا ينكر حملة مباخر "الوطنية" أرقام مرتباتهم السنوية التي تعد بالملايين، هم "الوطنيون" إذن أمام الدولة، وأما ذلك الإنسان الذي حُمّل لقب "مواطن" فقد أصبح المصطلح بالنسبة له سمجاً مرادفاً فقط لكل البيروقراطيات التي يتعرض لها في دواوين الحكومة ليل نهار.

ومع هذا فمطلوب من ذلك "المواطن" أن يذوب عشقاً في "وطنه" كأنها حالة من المازوخية، التلذذ بتعذيب الآخرين، المستمرة... لكن يبقى السؤال هل نكره أوطاننا حقاً؟! أم نكره تلك الأيام السوداء التي تعيشها أوطاننا. أكارهون نحن للأرض، للناس، للتاريخ، أم كارهون لتلك اللحظة الكئيبة من عمر الوطن.

أعطني وطناً.. أعطيك وطنية
لم أستغرب كثيراً حينما كنت أسمع أسماء الناس في مصرنا قديماً "الحج وطني"، "الحجة وطنية"، فقد أحب الناس وطنهم إلى الدرجة التي اختاروا هم، وقتها، لأبنائهم أن يحملوا اسم الوطن مجرداً، وبلا خجل أو شعور بالسخرية التي يمكن أن تنتاب أياً منا اليوم متى اقترح عليك أحدهم أن تسمي صغيرك "وطني"، أليس كذلك!

إن الوطن الذي أحبوه أعطاهم، فبادلوا العطاء بالحب والانتماء، عملية نفعية تبادلية تحمل الكثير من العاطفة، لكنها في كل الأحوال منطقية.. أليس كذلك؟!

لذا عندما فقد المنطق عقله رأينا من يتغنى قائلاً: (ما تقولش ايه إديتنا مصر)! إياك أن تسأل عن حقك أيها المواطن! وفي المقابل (نقول هندي إيه لمصر)! سل نفسك أولاً ماذا ستعطي الوطن؟! أليست هذه قمة الانحراف عن المنطق؟!

هؤلاء الذين يعيشون تحت ظلال الكباري، وعلى الأرصفة، ويفترشون ليلاً ضفاف النهر، سحبت منهم الدولة اللقب "مواطن" وأطلقت عليهم "أبناء الشوارع"! ربما لأن ليس لديهم ما يعطونه "لمصر"! وإلى أن يصبح لديهم شيء ما يعطونه لمصر... من سيعطيهم؟!

أذكر أنني في أحد الأيام وأنا ما زلت طالباً في السنة الأخيرة لكلية الإعلام قابلت مصادفة أحد الزملاء من الخريجين الذين سبقوني بعامين، لم تلفت انتباهي تلك الهيئة الرثة للرجل، ولكن ما لفت انتباهي حقاً هو كم الأسى الذي بدا على وجهه، كان حواراً سريعاً خاطفاً، عرفت في نهايته لماذا تلك السخرية السوداوية التي يتكلم بها الرجل عن حاله، فقد أخطأت وسألته عن عمله بعد التخرج؟ فكان الجواب: لبّان! نزل الجواب على رأسي كالصاعقة حتى إنني لم أستوعبه، فكررت السؤال في غباء، فأجاب: لبّااااان أبيع الجبن واللبن!

أقسم لكم أنني لم أعرف كيف أنهيت اللقاء العابر وقتها، لم أعرف ما أقوله له، وهو الذي أنفق عمره خلف سراب التفوق الدراسي خريجاً لإحدى كليات القمة! ترى هل يحب هذا "المواطن" وطنه!

ذكرى أكتوبر.. للوطن أم للمواطن
تمر هذه الأيام، ككل عام، ذكرى حرب أكتوبر "المجيدة"، تشعر عادة بالذكرى قبلها بأيام، بمجرد أن تبدأ كهارب الوطنية وزينتها تعلق في وسائل الإعلام المصرية باعتبارها مناسبة لرفع الروح "الوطنية"!

في الكتب تعلمنا أن أكتوبر الحرب والعبور كانت لصد العدوان وإعادة الأرض، وكسر غطرسة "العدو"، لكننا في تلفزيون صفوت الشريف لثلاثين عاماً كانت أكتوبر بالنسبة إلينا مناسبة للرقص والغناء أمام الرئيس صاحب "الضربة الجوية" التي فتحت باب الحرية!

في التاريخ كانت أكتوبر رمزاً لعودة سيناء "كاملة لينا"، لتكون "مصر اليوم في عيد"، حدثني عن سيناء الآن!

الرصاصة لم تعد في جيب.. محمود ياسين
كل هذا عن الأمس... أما اليوم فبعضهم بدا غاضباً من هؤلاء "غير الوطنيين" الذين باتوا يشككون أصلاً في "نصر" أكتوبر ويصفونه "بالخديعة"! أو بالنصر الزائف الذي انتهى بتوقيع اتفاقية "سلام" مع العدو.

ربما لم تعد أفلام محمود ياسين تقنع المصريين أن الرصاصة ما تزال في جيبه، لأنه في حقيقة الأمر أطلق الرصاصة فاستقرت في صدر مصري مثله، فأصبحت الذكرى باهتة حزينة يراها بعضهم على أنها مناسبة لتأبين أبنائه الذين سقطوا قتلى في الميادين في ذكرى اليوم ذاته، وآخرون لا يرون فيها أكثر من يوم عطلة آخر لا يستيقظون فيه مبكراً!، وآخرون احترفوا فيها الرقص والتمايل وإيقاد شعلة "الوطنية" بالأغاني والأناشيد.

يظل الوطن رهيناً ما بين هؤلاء الراقصين على نغمات أكتوبر في كل العصور، والمتباكين منها أو عليها، فأيهما أكثر "وطنية" في قاموسك يا وطني؟

(مصر)
المساهمون