قاعدة المعلم فوكنر

28 يونيو 2016
لوحة للفنان الفرنسي روبرت دولونيه (Getty)
+ الخط -
لماذا لا نجد ميلان كونديرا على صفحات فيسبوك، فيما نجد باولو كويلهو على كل صفحات التواصل الاجتماعي في الإنترنت: مواقع، مدونات، فيسبوك وتويتر؟
هل يتعلّق الأمر بحساسية كل واحد منهما تجاه العلاقات الاجتماعية والحياة العامة، أم يتعلّق ذلك بالغرور والتواضع؟
ضجرتُ يوماً من المهاترات الكلامية في فيسبوك ففكّرت بإغلاق صفحتي الشخصية. لكن ما إن هممت بفعل ذلك، حتى قرأت تعليقاً على أحد منشوراتي يشكرني فيه صاحبه على تواضعي الكبير في تعاملي مع القراء من خلال ردي على تعليقاتهم ورسائلهم.

في الحقيقة كنت يومها مصمماً على مغادرة هذه الوسيلة التواصلية لولا هذا التعليق الذي صرت معه خجلاً من تنفيذ ما قرّرته. مع هذا لم يكن التعليق، كلّه، يجلب الارتياح، فقد راح صاحبه يردّد "موجبات" الكاتب: "عليه أن يكون... ويجب أن يتحلّى... وأن يعبّر... وأن ينصت ويسمع... وعليه..." واعتبرني، ويا للعجب، مثالاً لهذا الكاتب الذي أراده مطيعاً لقرائه.
ما يبدو للمتابع، والحال هكذا، أن شبكات التواصل الاجتماعية على الإنترنت، ومنها فيسبوك وتويتر، قد تؤدي إلى تدمير الكاتب، إذا ما استخدمت في نقاشات وتعليقات و"لايكات" تشغله معظم الوقت.
إلى جانب ما تقدّمه هذه الوسيلة من ثقافة "برقية"، خاطفة وسريعة، لا يبدو معها المتابع لديه القدرة على تجميع المعلومات المختلفة وتفحصها والتفكير فيها. فهي لا تنتج، عبر ما تبثّه، سوى الانفعال والإرباك، وبالتالي "التلقي" السهل والاتّباع والتكرار.
أمّا إذا كان هناك من ينظر إلى تواصل الكاتب عبر شبكات التواصل الاجتماعية باعتبارها مسألة أخلاقية تتعلّق بالكبرياء والتواضع، فإن تجارب الكثير من الكتّاب تقول لنا غير ذلك. وتبدو المسألة بالنسبة إليهم مرتبطة، أولاً وأخيراً، في كيفية استعمال الوقت. ‬‬‬‬‬‬‬‬ولنتذكر قول وليم فوكنر(1897 - 1962): "أنا عن نفسي، منشغل جداً‮ ‬عن متابعة العامة‮، ‬ولا وقت لأتساءل لماذا‮ ‬يقرأونني". مضيفاً: ‬"أنا لا أهتم كثيراً برأي أي شخص في أعمالي أو أعمال‮ ‬غيري من الكتّاب".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ‬‬‬‬

طبعاً، قد لا نجد هذا الرأي لدى كثير من الكتّاب العرب فهم متواضعون، في علاقاتهم وإبداعاتهم، ولهذا نجدهم يقضون أوقاتهم في الترويج لأنفسهم، عبر هذه الوسائل، من أجل شهرة لا فائدة منها.‬‬‬‬‬

ولأسباب اجتماعية تراكمية، لا يستطيع الكاتب العربي أن يعتزل ليكتب كحال فوكنر، لأن معيشته تتطلب منه أن يعمل ويكدح من أجل لقمة العيش. وبالتأكيد هناك فرق بين القطيعة مع الناس وبين العزلة للكتابة. فماركيز مثلاً كان أكثر الكتّاب قرباً من النّاس، لكنّه كان أيضاً من أشهر من تحدثوا عن عزلة الكاتب أثناء الكتابة، بل ومن أشهر الذين عاشوها. فقد اشتغل بمهنة الصحافة، وتشرد في الفنادق والمنازل الرخيصة، لكنه حين جلس ليكتب أعماله المهمة ابتداء من "مائة عام من العزلة"، بدأ منعطفاً جديداً في حياته. إذ تفرّغ للكتابة، "المهنة الأكثر عزلة" على حد قول ماركيز لصديقه ميندوزا.

ومن أجل تحقيق هذه العزلة، ثمة في كثير من البلدان الغربية، منح للكتّاب والفنانين من أجل أن يقضوا عدة سنوات أو أشهر في بيوت خاصة، منعزلين عن أهلهم وعن الناس كي يكتبوا.
وما يُلاحظ أن علاقة التواصل بين بعض الكتاب والقرّاء عبر صفحات التواصل الاجتماعية في الغرب، وحتى في أميركا اللاتينية، هي جزء من المهام المؤسسية الدعائية التي تهتم بالكتاب، مثل الوكلاء الأدبيين وما إلى ذلك. فماركيز نفسه، وهو الكاتب المهم، كانت وراءه مؤسسة دعائية ضخمة، على عكس وليم فوكنر الذي تعلّم من كتاباته كما قال.

ولهذا لا يقوم الكتّاب بالرد على القراء من خلال صفحات خصصت لانطباعاتهم وإعجابهم بكتبهم، كما كان يفعل كتّاب القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ بل يتركون المهمّة لمحرّرين يقومون بالرّد إذا اقتضى الأمر وتعلّق بالإنتاج وليس بالرأي.
وهكذا، ماذا يفيد الكبرياء، بل وماذا يفيد التواضع إذا كان الجميع، يدورون في فضاء من خواء؟ ليكتب لنا هذا الكاتب كتاباً متميّزاً وله أن يغتر ويتكبر كما يريد. له أن يرى نفسه متواضعاً أو عظيماً خلاّقاً. المهم ما الذي يقدمه ككاتب. أمّا الكاتب الذي يهتم بعدد "اللايكات" والمعجبين والمصفّقين فهو ليس بكاتب، حسب قاعدة المعلّم فوكنر، والقراء الذين يهمهم أن "يدردش" معهم الكاتب بدلاً من أن يمضي وقته في الكتابة وإنجاز الكتب، هم ليسوا قراء وإنّما ثرثارون، مثله، تمامًا، إذا أمضى وقته على هذا النحو.



المساهمون