في يومها العالمي: روايات اختبرت "حريّة الصحافة"

03 مايو 2020
عمل لـ غسان غائب/ العراق
+ الخط -

ليس "اليوم العالمي لحرية الصحافة" غير موعد سنويّ رمزيّ. عادةً، تبرز في مثل هذه المناسبات القراءات التعميمية والإحصائيات والتذكيرات بواقع الإعلام هناك أو هناك، وغير ذلك من المراسيم التي ترافق هكذا يوم. بعدها يتفرّق الجمع، ويحتفي الكوكب بأيام عالميّة أخرى.

في بقية أيام السنة، تعمل الصحافة في صمتٍ، وفي كلّ اتجاه؛ هي من يُفترض أن يسلّط الأضواء على الآخرين، ويعطيهم أصواتهم في سيمفونية تحاول أن تحتوي كلٍ ما يحدث فيبقى الكثير مفلِتاً من بين أصابعها. إنها اشتباك شامل مع الواقع، جبهة مفتوحة 24/24 ساعة، كائن مركّب من الرغبات الكبرى والتوجيهات والمناورات، ومن البراءة والسذاجة أيضاً. قضية تفضي إلى بقية القضايا التي تصنع الكلّ الاجتماعي. فمن يستطيع أن يمسك بها؟

هذه الظاهرة الشاملة لا نتلمّسها إلا كعميان الحكاية مع فيلهم؛ كلّ من يقع على جزء يتخيّله الكلَّ. وبما أن فنّ الرواية متبرّئ عادة من ادعاءات المعرفة الشمولية والثبوتية، فقد اخترنا أن نرى واقع الصحافة من خلاله؛ الرواية باعتبارها مؤشراً عن تمثّلات العقل الجمعي لأية وضعية بشرية ومنها واقع الصحافة. ولما كان هذا الأخير محكوماً بإكراهات شتّى اقترحنا أن نخلطه بالتخييل فنراه في مرآته.

هنا خمس روايات عربية صدرت في السنوات القليلة الماضية وتناولت واقع الصحافة، مقترحة زوايا متعدّدة لفهم عوالمها وتعميق معرفتنا بها. ولعلها تجيب عن بعض تساؤلاتنا حول عوائق "حرية الصحافة" في يومها العالمي.


"باغندا" لـ شكري المبخوت

لو أسقطنا الحكاية والشخصيات وتقنيات التلاعب بالزمن، وكلّ العناصر التي تصنع رواية، فإن ثاني روايات شكري المبخوت "باغندا" (دار التنوير، 2016)، يمكن اعتبارها عملاً فكرياً حول الصحافة. ولو أننا اخترنا لهذا العمل عنواناً سيكون عنوان الفصل الأخير من الرواية؛ "التحقيق المستحيل"، حيث كُرّست أدوات الفن الروائي لـ "إثبات" أن الصحافة الاسقصائية غير ممكنة، في بيئة لا أحد يريد فيها أن يَعرف الحقيقة أو يترك غيره يعرفها، كحال تونس في الفترة التي يتناولها العمل (ثمانينيات القرن الماضي)، وعلى الأرجح كحالها إلى اليوم.

يقدّم العمل وقائع تحقيق صحافي حول اعتداءٍ على لاعب كرة قدم شهير، وهي جريمة تتداخل فيها دوائر الرياضة والسياسة والمال والحب، في انتقالات سريعة - ذهاباً وإياباً - بين قاع الفقر حيث الجرائم الصغيرة المجانية وأعالي مواقع الدولة حيث التخطيط لترتيب كلّ شيء، وفق مصالح عليا لا تتورّع في استعمال علبة أدواتٍ حادة لإخصاء كلّ ما يخرج عن إرادتها، لا تستثني في ذلك حماسة الصحافيين، أو بعضهم تحديداً.

في هذا التحقيق يمضي الراوي-الصحافي، وهو نفسه عبد الناصر العسلي بطل "الطلياني" (الرواية الأولى لشكري المبخوت)، في خمسة مسالك تغويه بالوصول إلى الحقيقة، ثم لا تفضي به في الأخير إلى أي مكان سوى إقناعه بأن كلّ طريق للوصول إلى الحقيقة قد طُمس مسبقاً في دغل من الفرضيات لا يكسب مُقتحمه إلا باحتمالات وقرائن منقوصة، أما الخسائر فلا تحصى.


"أرض المؤامرات السعيدة" لـ وجدي الأهدل

بعد أن يخسر سمعته المهنية والأخلاقية، يتخيّل الصحافي مطهّر فضل، بطل رواية "أرض المؤامرات السعيدة" (منشورات نوفل، 2018)، حديثاً مع رئيس التحرير يسأله فيه: "لماذا تآمرت عليّ؟" فيجيبه ضاحكاً: "يا ابني، نحن تآمرنا عليك لنجعلك سعيداً"؛ جملتان في حوار تلخّصان "الطريق إلى السعادة" في منظومة فساد؛ هناك حيث لا معنى للبحث عن حقيقة أو معنى.

كانت المهمّة المعلنة لمطهّر فضل هي التحقيق في وقائع حادثة اغتصاب طفلة من زعيم قبليّ مدعوم من السلطة، غير أن الصحافي كان يعلم أن أصل المهمّة هو تزييف الوقائع واستبدالها بسيناريوهات جديدة من أجل إنقاذ سمعة المعتدي. هكذا يعتقد فضل أنه يدخل مهمّته مسلّحاً بكل الأدوات التي تمكّنه من التلاعب بمن حوله ليكتشف بالتدريج - مع تطوّر أحداث الرواية - أنه كان ألعوبة. لكن رغم خسائره، فإنه يُكافأ في النهاية ضمن لعبة توزيع الغنائم، وذلك وجه آخر من وجوه منظومة فساد حين تشتغل بكامل قوّتها.

من وراء العناصر التي وضعها وجدي الأهدل في قِدر روايته، سيتساءل القارئ كيف يمكن الوصول إلى أية حقيقة في اليمن الذي يصوّره؟ فالوقائع التي يريد الصحافي أن يزيّفها كانت محجوبة عليه أصلاً، بفعل مناخ من التشويه يغلّف كل شيء، وقد استعمل الأهدل عناصر ساخرة لإيصال هذه الفكرة؛ انتفاخ في أنف الصحافي وفقدانه حاسة الشم، كان لدليله عاهة في النطق فلا يعرف أحياناً الأسماء الحقيقية للناس، وطول الوقت كانت معظم شخصيات الرواية تستهلك القات بما فيها الصحافي. بعد كل ذلك؛ كيف للحقيقة أن تظهر من وراء كل هذه الحجب؟ ذلك هو الوضع الطبيعي، فلكي تستمر، ينبغي لكل منظومة فساد أن تلقي في الطريق آليات كهذه لتغيير معالم الواقع وقطع كل المنافذ التي تؤدّي إلى الحقيقة، أي حقيقة.


"هوت ماروك" لـ ياسين عدنان

من شخص لم يحدث أن اشترى جريدة ورقية في حياته، إلى أحد "الفاعلين" في الصحافة الإلكترونية، ذلك هو مسار رحّال، الشخصية الرئيسية في رواية "هوت ماروك" (منشورات الفنك، 2016). كيف انقلبت علاقة رحّال مع الصحافة؟ وأي دور باتت تلعبه هذه الأخيرة وهي تلبس رداء تقنياً جديداً؟

تحدّثنا الرواية عن دخول الصحافة الإلكترونية إلى المغرب، في سياق تغييرات سياسية واجتماعية عرفتها البلاد بين نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي. الشخصية الانطوائية والتافهة لرحّال ستنقلب رأساً على عقب حين يكتشف أن تعليقاته على مقالات وأخبار جريدة إلكترونية تدعى "هوت ماروك" تُنشر على الفور؛ فينتهي فجأة ذلك الانسحاب من الفضاء العام ليصبح مشاركة متحمّسة في قول أي شيء عن أي شيء.

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء؛ أولها بعنوان "الفراشة في طريقها إلى المسلح" وفيه يصوّر عدنان من خلال الحياة الجامعية لرحّال واقع مراكش الاجتماعي نهاية تسعينيات القرن الماضي. في الجزء الثاني "السنجاب يدخل العلبة الزرقاء"، يسلّط الكاتب الضوء على ذلك الانقلاب الذي أحدثه ظهور "هوت ماروك" في حياة رحّال، و"تضخّم" شخصيّته مع إطلاقه لشخصيات افتراضة باتت تعليقاتها تعرف نجاحاً سرعان ما لفت نظر البوليس إليه ليطوّعه في عمليات توجيه الرأي العام. أما الجزء الثالث "الكوميديا الحيوانية"، فيقترح عدنان مشهداً عاماً بعد أن نفهم كيف تعمل ماكينات التزييف من الداخل. في المحصّلة، نجد أن شخصية رحال التي توهمت أنها فاعلة قد انتهت إلى برغي جديد في الماكينة الكبيرة الساهرة على إبقاء الوضع كما هو.


"البلاط الأسود" لـ ناصر عراق

يوجد نموذجان شكسبيريان لفهم علاقة الصحافي مع المنظومة المهنية التي ينتمي إليها؛ إما أن يكون شبيه هاملت (شخصية أخلاقية في بيئة غير أخلاقية)، أو على العكس شبيه ماكبث (شخصية غير أخلاقية في بيئة أخلاقية)، وكلا الوضعتين تفضي إلى مأساة كما تشير إلى ذلك مسرحيات شكسبير.

في رواية البلاط الأسود (الدار المصرية اللبنانية، 2016)، يقترح ناصر عراق لقاء عجيباً بين هذين النموذجين من خلال شخصيّتي صالح رشدي، الصحافي المتسلّق والانتهازي، وزوجته منال الصياد، الصحافية أيضاً ولكن في صورة ملائكية، حيث أن صالح صنَع مسيرته من خلال التخلّي عن وازع أخلاقي (وشايات، عرض خدمات الصحافة على السلطة، خيانة زوجية...)، فيما تشقّ هدى طريقها بما أؤتي لها من كفاءة ودون أيّة تنازلات.

تتناوب الشخصيتان دور الراوي، وهي لعبة بنيوية أتاحت أن نرى نفس البيئة الصحافية - ومن ورائها تاريخ مصر من بداية تسعينيات القرن الماضي إلى زمن قريب - بمنطقين مختلفين تماماً، وقد حافظ البطلان على تناقضهما إلى النهاية. هكذا تُظهر "البلاط الأسود" عالم الصحافة كتعايش حقيقي بين هذه المتناقضات، وأن عالم الصحافة هو بالضرورة هذه التركيبة المتكوّنة من النقيضين ومن أطياف لون أخرى بينهما.


"مقتل بائع الكتب" لـ محمد سعد رحيم

هناك جريمة اغتيال؛ يَفترض ذلك أننا سنكون في "مقتل بائع الكتب" (سطور، 2016) حيال رواية بوليسية، غير أن المكلّف بالتحقيق (من جهة غير معلومة) هو صحافي. يغيّر ذلك من معادلات كثيرة، فلم نعد أمام رواية بوليسية بل أن الأمر يتعلّق بـ"رواية استقصائية"، بحسب المصطلح الذي اقترحه الناقد العراقي محمد جبير في دراسة مستفيضة لأعمال مواطنه الكاتب الراحل سعد محمد رحيم.

يأتي التحقيق البوليسي عادة متسلّطاً، عالماً أو بالأحرى متعالماً، منهجياً، متسلحاً بالهيبة وقد تهيأت كلّ الشخصيات من حول المحقق للاستنطاق. أما التحقيق الصحافي، كما يتجلّى في رواية "مقتل بائع الكتب" - وكما هو أغلب الأحيان في الواقع - فهو مهزوز بالضرورة، حيث أن الجميع يبدو مفلتاً منه؛ الأماكن تتحوّل إلى متاهات، والشخصيات تتهرّب من الإجابة، ولها كل الحق في ذلك، وحتى إذا تحدّثت تحوّلت شهاداتها إلى ألغاز وأسئلة تتوالد من بعضها، وترتسم الوقائع كحيّات متراقصة، ولا سلطة على المكان ولا سيطرة.

كان ذلك حال الصحافي ماجد البغدادي وهو يصل بعقوبة عشية الغزو الأميركي للعراق (2003)، أي أن رحيم قد اختار مرحلة رُفعت منها قوانين الجاذبية فجأة، وبالتالي فمن المتوقّع ألا يصل البغدادي إلى شيء لكنه في المقابل يبني شبكة من العلاقات تتيح له ما هو أهمّ من معرفة الجاني، وهو اكتشاف شخصية القتيل، محمود المرزوق (بائع الكتب)، ومن ورائه العراق القديم الذي توارى خلف الحروب والفتن، بما في ذلك من إشارة بأن الصحافة ليست فقط ركضاً خلف الحقائق.