نخطو في هذه الأرض الشائكة وعيوننا تبحث عن موطئ قدم، بعد أن فقدت المآسي وعيها، وبقيت الساحة المستقبلية واجهة مهجورة، امتداداً لعوالم مستحيلة كانت تبدو لغاية يوم أمس وكأنها في متناول اليد.
نعرف أن الهجرة نوعان: هجرة تشدك إلى الداخل، وأخرى تدفعك نحو بحر من العواصف، لذا كل ما نتمناه ألا نبقى في المنتصف، أن نكون أو لا نكون، وقبل كل شيء أن نعرف لمرة واحدة وإلى الأبد مغزى انتمائنا.
شمس الخريف عين كبيرة تطل بأشعتها الباهتة من خلف الأبنية العالية، وتدفع بظلالنا الزائغة إلى داخل الفناء الواسع وجزء منها يتسلق الجدران حتى حواف النوافذ، عمودياً. كيف يحدث ذلك لا ندري، ونتمنى لو يحين دورنا قبل أن ينكّل بنا البرد القارس. بين فترة وأخرى يمرّ "الترام"، والركاب ينظرون إلينا بفضول من النوافذ، وبعضهم يلتقط صوراً لنا أيضاً.
لا أحد يبالي. نحن عرب وأفارقة اعتدنا على هذه الحالة منذ شهور طويلة، والبعض يدّعي منذ سنوات، عمر بحاله، يضيف الآخر بأسى. يصل بنا الأمر لأن نتساءل ونحن ننتظر كيس "المعيشة": ماذا سيَلُمّ بنا؟ وما المصير الذي ينتظرنا؟ العيون القلقة لا تتفادى السؤال، إنما تخشى الجواب، رغم أن لا أحد يفتح فمه وينطق بكلمة.
صُمٌ بُكمٌ نتقدم خطوة أخرى. نحصل على الكيس بعد لأي، نهرع بخطوات سريعة نحو الحديقة، نفرش جريدة على الحشيش ونمدّ السفرة. خبز وحليب، والجوع السافر يجعلنا نخجل من أفواهنا المنفوخة بلقيمات كبيرة والحليب الأبيض الذي يسيل من زوايا الفم. المارّون لا يبالون، أو هكذا يبدو لنا، ولكنهم يتناقشون، ونحن لا نفهم الكلمات، ولكن الذاكرة، ذاكرة المورثات والغريزة الغبية، تفك سرّ كل حركة وإيماءة.
اللقمة تلتصق في الحلق، نغصّ، نسعل، والدمع ينفجر من العينين. يختفي الجوع ليفسح المجال لغضب بليد. علبة الحليب وفتات الخبز تبقى هناك شهوداً حقيقيين لمأساة زائفة. فنحن لسنا نحن، واللفتة الحزينة لا تثير أحاسيسنا، لأننا الآن نختبئ بين أولئك الذين يريدون منا أن نبقى في الظلّ. لعبة لا نملك أدنى فكرة عنها، ورغم ذلك نلقي بأنفسنا في المعمعة، لعل وعسى؟!
نكتشف قواعد اللعبة في زنزانة تفوح بكل الروائح القادمة من عوالم الجنوب: أنتم تملكون حقوقاً، تقول إحدى المتطوعات بلهجة مغاربية، وقبل أن نفكر بلحظة، تضيف: وواجبات أيضاً. ثم نتعلم في مكان آخر، مهجع كبير يضم مهاجرين، مشردين، متسكعين ومدمنين على المخدرات، أن الواجبات تأتي قبل الحقوق، ويمكنهما حتى أن يتبادلا الأدوار.
ومن كلمة إلى أخرى، جنباً إلى جنب على الرصيف، ينصحنا بائع ورد من بنغلاديش بأن نجرّب. نتبعه أزواجاً وفرادى وندخل المقبرة العظمى متوجسين أكثر من الحارس الذي يرمقنا بارتياب مهذب. نمشي على رؤوس أصابعنا بين الأضرحة التي ترتفع فوقها تماثيل عملاقة لملائكة من كل الهيئات ولربّات الرومان والإغريق.
لا يمتلكنا الخوف ونحن نلمّ باقات الورود من هنا وهناك، ولا نبالي بالخجل الذي بدأ ينضح من جبيننا على شكل حبيبات من العرق اللزج، فنحن نريد أن نأكل. البنغالي يساعدنا في القفز من فوق السور، ثم نمشي على الرصيف كحديقة متجولة، وهنالك من يخبئ وجهه خلف باقة كبيرة تضج بالألوان.
نبيع الورود بمشقة والبعض يرفع أصبعه في وجهنا مهدداً، وندرك بعد فوات الأوان أن أحدنا لم ينزع بطاقة التعزية من الباقة. البنغالي يؤنبنا كأب حنون، ويتهمنا بالغباء، ثم يتخلى عنا ويمضي في طريقه.
نذهب في اليوم التالي مع عشرات آخرين وننضم إلى الطابور الطويل أمام مبنى "شعبة الأجانب" لنجرّب حظنا. أحدهم يصرخ: من أين الشباب؟ تتعدد الأسماء، حمص، حماة، حلب، درعا، إدلب، ثم يسود صمت عميق عندما ينطق أحدهم باسم داريا. البنغالي لم يقل هذا، قال جرّب فقط، ربما كان يدري أن الحظ كلمة ابتدعها الرأسماليون، بينما أمضى اليساريون عمراً بحاله لكي يثبتوا العكس، إلا أن وقعوا هم أيضاً في بؤس حظهم.
في الظهيرة، نستلقي بكل هوادة على أرجوحة الخيال في حديقة إندرو مونتانيللي، أيقونة اليمين وفارس القلم الذي كان يمجّد أساطير الشعب الذي لا يقهر. كل طفرة من أحاسيسنا تتحول إلى غدير شفاف، تنمو على ضفافه ملاحم من أزمان أخرى. نحاول أن نعيش الوجود بانفعالات دافقة، وألا نبقى رهائن أية إشارة، حتى ولو كانت مُلحّة وترتدي خمار الإصرار ولا تكلّ عن الصراخ.
عندما نفتح نافذتنا المخمورة صباحاً، نشعر وكأننا نغازل لأول مرة ونحن نتعثر بالسخافات الناعسة. تهطل الكلمات على رؤوسنا بالصدفة، ندية تحمل رائحة الأحجار القديمة التي تغطي شوارع ميلانو. ننظر إلى هذا العالم الذي يُشخّص وجودنا بلا مبالاة، ونحن نفكر بماهية هذا الوجود. جحافل متحركة من التورية، تألّق الإنسان في إبداعها، وهي تستند على البلاغة الشاعرية وتهشم عظامنا.
نعرف أن الحقيقة وارتباطاتها ليسا أكثر من وهم. ومحاطين بأسوار السهاد، نشعر بسحر الكلمة ونحن نحدّق في تمثال هذا الشخص الغارق في الكتابة، ولكننا نعجز في تحويلها إلى شيء ما، ونكتشف بأن أفكارنا تطفح بآلاف التعابير وكأنها أنهار تلامس ضفافها موسيقى أشجاننا، آمالنا التي تكاد تذبل.
حالمين كما نحن، نعرف أن الخيال هو خبزنا اليومي، خلاصة حالتنا النفسية، إمكانيات مستقبلية تنبئ بما هو أسوأ، الزائل أجمل ما يملكه الأبدي. نحاول الكرّة مرة أخرى، واثقين من أن أملنا عقد زواج مع الريح، وأن الحزن يأبى أن يغتسل بماء العين فقط!
* كاتب سوري مقيم في إيطاليا