على أعمدة الصحافة العربية، كما في نصوص الرواية الحديثة وخطابات السياسة، تطالعنا العديدُ من العبارات الجاهزة المُستحدثة Idiomatisme، التي تُساق مساقَ التمثيل، وتؤدي وظائفه الاستعارية التي نظَّرت لها البلاغة الكلاسيكية، بما هي تركيبٌ مُركز "تجتمع فيه أربعةٌ لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية"، والكلام للنَّظام (777-838).
بيد أننا سندرك، بنظرة سريعة، أنَّ هذه العبارات لا تنحدر من المتن العربي الأصيل، ولا يجري أسلوبها على "عادة العرب الخُلَّص في التمثيل"، فضلاً عن حملها لعناصر ثقافية تخالف مرجعيات المتلقي، مما يرجِّح فرضية استجلابها إلى الضاد من أوساطٍ أجنبية، عبر الترجمة والتعريب إما بشكلٍ حرفي، أو بإجراء تحويرات على أجزاء صورتها.
ومن أمثلة العبارات الجاهزة التي انتشرت مؤخراً في الفصحى المعاصرة حتى غدت كأنها من صميمها: "زوبعة في فنجان"، و"استراحة مُحارب"، و"حِزام أمان"، و"لغة خشبية"، و"ذئاب منفردة"... وتتضمن القائمة مئاتٍ مثلها، خُصّصت لها معاجمُ كاملة لاستقصائها بعد أن باتت من عيون الصحافة العربية وأساليبها، وكاد أصلها الأجنبي أن يُنسى.
على أنَّ البحث في هذه الظاهرة يصطدم بإشكاليْن: يتعلق الأول بتحقيب دخول عبارةٍ ما إلى العربية، والجزم بتاريخ دقيق لدمجها فيها، علماً أنَّ المختصين في دراسة الأمثال والعبارات الجاهزة مثل كلود دينتون، يؤكدون استحالة تحديد زمنٍ لتبنيها، فضلاً عن تعيين قائلها الذي أنتجها ابتداءً.
ويتعلق الثاني بمعرفة اللغة - المصدر التي اقتُرض منها المثل أو العبارة، لاسيما أن اللغات الأوروبية، في حالتنا هذه، متداخلة بحكم وحدة أصلها اللاتيني وتفاعلها التاريخي، الممتد طيلة قرونٍ.
ويمكن التحقق من عربية عبارةٍ ما، مع بقاء هامشٍ للخطأ، عبر مراجعة "مَجمع الأمثال" للميداني (ت. 1124)، الذي أحصى فيه ما يزيد على أربعة آلاف مثلٍ، وذكر قصته الحقيقية أو المتخيَّلة، والتأكد من ورودها فيه، أو عَدمه. كما يساعد التحليل الفيلولوجي لمضمون هذه العبارات ومقارنتها بخصائص الثقافة العربية، في إثبات أصالتها أو نفيها.
وأما ترجمة هذه العبارات إلى العربية فقد اعتمدت إحدى نَهجيْن: فإما أن تُتَرجم العبارة بشكل حرفي، وهو ما يسمى "الاستنساخ" Calque، وإما أن ينقل معناها فقط، مع مراعاة خصائص العربية، بنيةً شكليةً وثقافةً.
ومن أمثلة المسلك الأول نقل مقولة: "اللغة الخشبية"، التي تعود إلى استخدامٍ روسي، ظهر قبيل الثورة البلشفية، حيث وردت عبارة "لغة السنديانة"، سخريةً من أسلوب الإدارة وثقل البيروقراطية القيصرية.
ومع استمرار هذه الأخيرة، رغم اندلاع ثورة أكتوبر 1917، تواصل استعمال هذا التمثيل، ولكن مع تعويض لفظة "السنديانة" بالخَشب، فصارت العبارة: "لغة الخشب". وانتقلت بعد ذلك إلى البولندية، ومنها إلى الفرنسية في سبعينيات القرن الماضي: Langue de bois. والراجح أنَّ العربية اقتبستها من الفرنسية، رغم أنّ إضافة اللغة إلى الخشب لا تعني شيئاً في المرجعية الاستعارية العربية، ومع ذلك سارت على ألسنة الناس للإحالة على الخطابات الدبلوماسية، القائمة على التورية والمواربة، وقول الأشياء التي لا تغضب أحداً.
ومن أمثلة النهج الثاني، نذكر صورة Tirer la sonnette d’alarme التي نقلت إلى العربية في جملة: "دقَّ ناقوس الخطر"، واستبدال مفردة "الإنذار" بقرينتها "الخطر"، للتنصيص على الطابع التحذيري الذي تحمله العبارة. ومن المعلوم أن "الناقوس"، وما آل إليه من "صافرات إنذار"، هي عناصر لا تنتمي أصالةً إلى الحضارة العربية، وإنما اشتهرت بعد الاحتكاك بالغرب.
وأما هجرة العبارات فتتم أساساً بواسطة الصحافة التي تلعب دوراً مركزياً في نشرها وتسييرها على الألسن، أو بالعكس قتلها وتنفير الناس منها، فتسقط في غياهب النسيان. وذلك ضمن دينامية متابعة ما يرد من وكالات الأنباء العالمية، باللغات الغربية، وترجمتها بسرعة بحثاً عن السبق الإعلامي.
ومن جهة أخرى، يضطلع الدبلوماسيون والناطقون الرسميون بدور بارز في هذا الانتشار، بحكم احتكاكهم الدائم مع اللغات والجهات الأجنبية، ومن مهامهم إصدار البيانات والتعليق على الأحداث العالمية، مما يدفعهم إلى استخدام لغة "عالمية"، تخاطب صورُها جميع أصناف المتلقين. وأخيراً، يلعب المثقفون والأدباء العرب الذين يعيشون في المهجر ويعاشرون لغاتِه ونصوصَه، دوراً مهماً في اقتباس فَتيِّ الصور، سواء في الأدب أو الفكر، وهو ما يُمِدُّ العربية بما لم يكن فيها من علاقات اقتران الكلم، إيحاءً وتصويراً.
ويترتب عن تنوّع هذه المصادر والوسائل، عدم انتقال العبارات نحو بيئاتٍ مشابهة، ضرورةً، لتلك التي منها قَدمت، بل هي تسافر من مُعجم إلى آخر، ومن سياقٍ دلالي إلى غيره، فتتحول مثلاً من مجال الإدارة والعلوم إلى تنازعات السياسة وتجاذبات المجتمع.
والطريف أنَّ بعض العبارات الجاهزة قَدمت من سياق الرياضة بما هي حقلٌ دلالي، مثل مقولتيْ: "استعراض العضلات"، أو "ضربة قاضية"، ثم شاعت في سياقات تداولية عسكرية أو سياسية، لا تمت بصلة للرياضة.
وقد ترفد الأجناس الأدبية لغةَ الصحافة بعبارات خاصة بها مثل: "رصاصة الرحمة"، التي تنحدر من الأدب البوليسي... وتترسخ هذه الاستعمالات بسبب هيمنة الميديا وطغيان العولمة، وهما اللتان سرَّعتا، في عصرنا، وتائرَ التفاعل بين الثقافات واللغات والخواطر.
وهكذا، تؤكد هجرة العبارات نحو الضاد أنَّ هذه الأخيرة تتمتع بموفور الصحة، مادامت تقتبس صور الآخرين وتتمثلها ثم تعيد إنتاجها في "مَعْرِض فصيح"، مما يقرِّب الشقة بينها وبين سائر لغات العالم، ويمدّها بأدواتٍ تعبيرية هي من ضرورات التواصل الناجح الذي يقتضي، بحسب النموذج الذي يقترحه الباحثان الألمانيان ستورنر وبروس، نظمَ علاقاتٍ متوازنة بين وحدات الخطاب وتأثيره المعرفي، وتفعيلٍ أقصى لدرجات معقولية المعلومة وتماسك لحمتها الإخبارية، بالإضافة إلى قُدرتها على مخاطبة الوجدان، لتحقيق التأثير المطلوب.
وليس كالأمثال والعبارات المسكوكة فعلاً في النفوس، كما صرَّح الجرجاني (1009- 1078): "إنَّ مما اتفق العقلاء عليه أنَّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في مَعرِضه، ونُقلت عن صوره الأصلية إلى صورته، كساها أبَّهةً وأكسَبَها مَنقبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعفَ من قُواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها".
ولكن، ما دامت المسألة بهذا الخطر، يحق لنا التساؤل عن قدرة العربية على إمداد اللغات الأوروبية بعبارات جاهزة، بعد أن أثبتت قدرتَها على إمدادها بمئاتٍ من المفردات، حسب دراسات صالح قمريش وجون بريفوست وغيرهما.
أليست القضية، في جوهرها، قضية صراع لغويٍ - ثقافي، يستعر أواره على الصعيد العالمي؟ وما العبارات الجاهزة إلا ساحة من ساحاتِه. وهل على متكلمي الضاد أن يلتحقوا بساحة الصراع هذه، وينقلوا الطاقة الاستعارية الهائلة التي تتضمنها عباراتهم القديمة من قبيل: "انقلب السحر على الساحر"، "انتشر كالنار في الهشيم"، أو "الطيور على أشكالها تقع"، ليجعلوها في النصوص العالمية أمثالاً سائرة؟