في معنى تأسيس "اتحاد" عربي للمهرجانات السينمائية

26 ابريل 2016
أيام قرطاج السينمائية محطة مهمة في السينما العربية(Getty)
+ الخط -
تتكاثر المهرجانات السينمائية المُقامة في مدن عربية مختلفة، والمنتمية إلى فئات متواضعة الحجم والقيمة، أو بالأحرى إلى فئات تلي الفئة الأولى، الخاصّة بمهرجانات عريقة ذات بُعدٍ عربي ـ دولي ما. أسباب ذلك عديدة، لعلّ أهمها البحث عن مكانة سينمائية في المشهدين الدولي والعربي، أو التواصل مع بلدان حوض البحر الأبيض المتوسّط، أو الحصول على تمويل مالي، أو البحث عن أسسٍ لتفعيل "حراك سينمائيّ" في المدن المُسمّاة بـ"الأطراف"، ما يعني أن هناك رغبةً ثقافية اقتصادية اجتماعية للخروج من المدن الرئيسية الكبيرة إلى الأصغر، بغية تفعيل تواصل ثقافي بين السينما وأبناء المناطق تلك.

ففي مقابل براعة المدن الكبيرة ـ ومنها العواصم ـ في احتلال أول المشهد العام، تحاول مدنٌ أخرى إيجاد "موطئ قدم" لها على المستوى السينمائي، في الخارطة المحلية أولاً، ثم الإقليمية، فالعربية والدولية لاحقاً (إن تتمكن من تحقيق هذا البعد الدولي)، متّخذة عناوين محدّدة أو محاور معينة، لتأكيد تميزها عن المهرجانات العربية المصنّفة "فئة أولى"، أي تلك المرتبطة بالحراك الدولي، كما هو حاصلٌ ـ وإن بمستويات متفاوتة ـ في القاهرة المصرية وقرطاج التونسية ودمشق السورية (علماً أن الأخير متوقّفٌ منذ انطلاق الحراك الشعبي ضد الطاغية قبل 5 أعوام، في حين أن كلاماً غير مؤكّد يُتَداول منذ أيام قليلة، يعكس تحرّكاً سوريّاً رسمياً لتنظيم مهرجان "دولي" في طرطوس، في مايو/ أيار 2016).

اتّحاد.. توحيد

إلى ذلك، يسعى معنيون بـ"المهرجان السينمائي العربي" إلى تأسيس ما يشبه "اتّحاداً" عربياً لبعض المهرجانات المقامة في "الأطراف"، من دون أن يمتلكوا، أقلّه لغاية الآن، خطة وأهدافاً واضحة. أوساط سينمائية تشير فقط إلى المسعى هذا، إذ إن الاتصالات الجارية لا تزال خجولة ومتواضعة بين المعنيين هؤلاء، في حين أن البناء التنظيمي ـ الإداري ـ القانوني لم يوضع بعد. وهذا، إن يدل على شيء، يتأتى من رغبة ـ قد تكون صادقة ـ في بلورة أفق ثقافي لمعنى المهرجان الخارج على السائد والأساسي، أو في تحصين الجانب الثقافي ـ الفني ـ الجمالي في صناعة السينما والمهرجان معاً، أو في الحصول على تمويل مالي بحجة "العمل الدؤوب على تفعيل المناطق الموزعة، جغرافياً، هنا وهناك، على المستوى السينمائي". أي أن اتحاداً كهذا، إن يتأسس فعلياً، يُفترض به أن يكون حامياً للمهرجانات المنتمية إلى الفئتين الثانية أو الثالثة مثلاً، مع التنبّه إلى أن تصنيفات كهذه غير متداولة في المشهد العربيّ بشكل رسمي.

تأسيس اتحاد لمهرجانات سينمائية عربية فكرة حاضرة منذ أعوام عديدة، مع بداية تنافس واضح بين مهرجانات دبي والقاهرة ومراكش وقرطاج ودمشق تحديداً، منذ بدايات الألفية الثالثة، كونها تحتل كلّها واجهة المشهد. التنافس هذا قائم بداية على محاولة لم تتكلل بالنجاح، تفضي إلى ضرورة التنسيق بين إداراتها على مستوى مواعيد دوراتها السنوية (مع تفرد مهرجاني دمشق وقرطاج بكون دوراتهما تقام مرة واحدة كل عامين، قبل أن يُصبحا "سنويين")، كي لا تتصادم فيتأثّر السينمائي ونتاجه سلباً، وتتحوّل المشاركة في هذا المهرجان إلى غياب عن المهرجان الآخر. ينضمّ إلى النزاع الخفي هذا مهرجان أبوظبي، في بداياته الأولى، من دون أن تؤدّي "المساعي الحميدة" إلى إيجاد صيغة للتنسيق، بدءاً من المواعيد ووصولاً إلى اختيار الأفلام والبرمجة والأهداف.

الفشل يؤدي إلى تفرد كل مهرجان باستقلاليته شبه المطلقة، خصوصاً أن التعنّت الذي تبديه إدارة مهرجان مراكش (المملكة المغربية)، بخصوص الاستقلالية والتفرّد، نابع من قناعة لدى مسؤوليه، مفادها أن لمراكش أولوية وأفضلية، وأنه "أفضل" من المهرجانات الثلاثة الأقدم تاريخياً (القاهرة ودمشق وقرطاج)، وأن حضوره أقوى دولياً، وارتباطه بفرنسا كفيلٌ بجعله الأهم في الجغرافيا العربية. تُثبت الدورات اللاحقة لمهرجان دبي مثلاً، أن المسار الهادئ لهذا الأخير يُثمر فعالية واضحة على مستوى الحضور والبرمجة، كما على مستوى المساهمة في "تسهيل" اللقاءات المطلوبة بين أصحاب مشاريع ومنتجين، والمشاركة في تمويل مشاريع سينمائية عربية أيضاً. مهرجان أبوظبي يُنظّم دورته الـ8، الأخيرة، في العام 2014، ومهرجان مراكش مستمرّ في بلورة آفاقٍ سينمائية مفتوحة على الدروس السينمائية التي يُقدّمها سينمائيون أجانب، وعلى برمجة أجنبية، وعلى ما يُشبه التغاضي أو اللامبالاة بالنتاجات المغربية والعربية، عامةً.


معنى المهرجان

استعادة هذا كلّه نابع من الفكرة المتداولة حالياً، بخصوص تأسيس اتحاد يجمع المهرجانات المنتمية إلى الفئتين الثانية والثالثة، أو المهرجانات المُقامة في مدن الأطراف العربية. فكرة الاتحاد تطرح، أيضاً، سؤال المعنى: ماذا يعني أن يكون لكل مدينة، غير العاصمة، مهرجان سينمائي، متخصّص بـ"ثيمة" واحدة، أو بجغرافيا واحدة، أو بهوية واحدة؟

بعض الأمثلة قابلٌ لإجابة منطقية: مهرجان الإسكندرية (مصر) مثلاً معنيّ بسينما تُنتجها دول حوض البحر الأبيض المتوسّط، فإذا بدوراته السنوية تجمع سينمائيّي الدول تلك في واحدة من أقدم مدن الحوض تاريخياً وثقافياً وإنسانياً. لكن دورات كثيرة سابقة تكشف ركاكة الحضور المجتمعيّ للمهرجان في المدينة، وانفضاض سكانها عنه، وعجزه شبه المطلق عن اختراق البيئة "الحاضنة" له جغرافياً على الأقلّ. بالإضافة إلى سوء الإدارة والتنظيم، وغياب صالات مجهّزة بتقنيات حديثة، وفوضى العروض والسهرات واللقاءات، وغياب الفعالية الثقافية للسينما. وهذا كلّه حاضرٌ في مهرجان الإسماعيلية (مصر) أيضاً، مع بروز فوارق عديدة بينه وبين مهرجان الإسكندرية، أبرزها تخصّصه بالأفلام القصيرة والتسجيلية، وبأفلام التحريك.
في مصر أيضاً، هناك مهرجانان يُقامان في المدينة المصرية الأقصر، منذ أعوام قليلة، يتخصّص أوّلهما بالسينما الأفريقية، وثانيهما بالسينما المصرية والأوروبية. الأقصر مدينة سياحية بامتياز، ذات عراقة تاريخية قد تكون أقدم من تلك الخاصة بالإسكندرية. حماية الأقصر من كل تحول سلبيّ ناتج من واقعها كمدينة سياحية. لكن السينما فيها لا تزال عاجزة عن الانفتاح على أبنائها، إذ تكتفي بضيوفٍ مصريين وعرب وأجانب، يمضون وقتاً في طبيعة خلاّبة، وذاكرة تاريخية عابقة بأمجاد وتُحفٍ وروائع.


مثلٌ إضافي: تشهد المملكة المغربية، أسبوعياً، مهرجاناً سينمائياً واحداً على الأقل، يتوزع على عناوين عامة: سينما المرأة والأدب، والأفلام القصيرة والوطنية والمتوسطية والروائية العربية ـ الأفريقية إلخ. الأشهر دولياً بينها يبقى مهرجان مراكش، لكن مهرجانين اثنين على الأقل، يُقامان في طنجة، لديهما حضور متين البنية في المشهدين السينمائيين المغربي والعربي: السينما الوطنية والسينما المتوسطية القصيرة. بالإضافة إلى "مهرجان تطوان لسينما بلدان البحر المتوسّط" (أيضاً). لكن طغيان عدد المهرجانات المغربية لن يكون، إجمالاً، عائقاً أمام انفتاح معظم المهرجانات تلك على بيئاتها المحلية الحاضنة أولاً، وعلى المستوى الوطني ثانياً، وعلى الحضور العربي ـ الدولي ثالثاً. ذلك أن المغاربة (والتوانسة والجزائريين بصورة أساسية) يمتلكون حماسةً كبيرة وواضحة لـ"السينما المحلية ـ الوطنية" أولاً، وللسينما عموماً ثانياً، وإن بدرجات مختلفة من الاهتمام.

يختلف الوضع في لبنان. ذلك أن البلد لا يملك مهرجاناً يحمل اسمه في المشهد الدولي، في حين أن "مهرجان بيروت الدولي للأفلام" لا يزال يواجه تحدّيات جمّة لإثبات حضور ثقافي ـ سينمائي لا يزال عاجزاً عنه. بينما "أيام بيروت السينمائية"، التي تُقام مرة واحدة كل عامين، فتبقى الأهم ثقافياً وسينمائياً، لإصرارها على التزام نهجٍ متواضع في البرمجة والتنظيم والإدارة، وعلى سلوك مسار سينمائي يتخذ من السينما العربية الجديدة والمستقلّة والمختلفة نواةً جوهرية لمعناها وهويتها. هناك "مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية"، المتوقّف ـ منذ نحو 3 أعوام ـ عن تنظيم دورات سنوية، بعد نجاحه في تفعيل حيوية ثقافية للنتاج الوثائقي اللبناني والعربي والدولي. المهرجانان الأخيران (الأيام والوثائقي) يبقيان الأقدر على جذب مشاهدين يمتلكون علاقة ثابتة بهما.


تساؤلات

خارج العاصمة اللبنانية بيروت، لم تتوصل مدنٌ عديدة إلى تشكيل ارتباط اجتماعي بالفن السابع. قليلة هي صالات العرض السينمائي التجاري، وإنْ يعمل موزعون على افتتاح بعضها في مدن تُعتبر، تاريخياً، من المدن اللبنانية الأساسية. فطرابلس، عاصمة الشمال، تخلو من صالات عرض كهذه، باستثناء 3 فقط، هي المعروفة بوجود نحو 25 صالة سينمائية مختلفة الأشكال الهندسية والعروض السينمائية، في خمسينيات القرن الـ20 وما بعدها، وصولاً إلى الأعوام القليلة الأولى للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). لكن طرابلس نفسها تبدو اليوم كأنها تعمل على إحياء ذاكرتها، عن طريق المهرجان، إذ تُقام دورة ثالثة لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" بين 20 و27 أبريل/ نيسان 2016، في محاولة جدية لاستعادة العلاقة شبه المفقودة بين المدينة والصورة السينمائية، يقدم أفلاماً عربية وغربية، تتوزّع على الروائيين الطويل والقصير، كما على التحريك والوثائقيات.

إذاً، الارتباك واضحٌ تماماً: مهرجانات مناطقية متواضعة وقليلة العدد، تمتلك حضوراً واشتغالاً ثقافياً وجمالياً للسينما، وتحتلّ مكانة ثابتة في "الوعي الجماهيري" للفن السابع وأهميته وجمالياته المتنوّعة؛ في مقابل كمّ هائل من المهرجانات التي يُمكن وصفها بـ"المهمّة"، فقط لتخصّصاتها المختلفة، في حين أن بعضها "النادر" قادرٌ على تواصل ثقافي حيوي مع الجمهور والضيوف، أي مع المشهدين المحلي والدولي. فهل يُمكن لـ"اتحاد" أن يجمع هذا كلّه في إطار واحد؟ ونجاحه، إنْ يتمّ، قادرٌ على بلورة خطة عمل تُحصّن المهرجانات من بقاء غالبيتها الساحقة في فخّ الارتباك والخلل والفوضى؟ هل تبلغ المهرجانات الأساسية، أصلاً، مرتبة "الدولية"، الممنوحة من "اتحاد المنتجين الدوليين" (أعلى هيئة خاصّة بالمهرجانات السينمائية الدولية)؟ وهل تُحافظ على "هيبتها" الدولية؟ إذا كان الجواب إيجابياً، فلماذا لم تنجح تلك المهرجانات في تأسيس اتحادٍ؟

الأسئلة عديدة. لكن غياب أجوبة واضحة لا يُعفي المعنيين والمهتمّين من إطلاق نقاش نقدي، يُفترض به أن يبدأ من معنى المهرجان، ودوره وهويته ومجاله الثقافي.
(كاتب لبناني)
المساهمون