في مسألة نقابة المعلمين الأردنيين
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
تلخص أزمة نقابة المعلمين في الأردن مأزق التحديث الذي تمرّ به البلاد سياسيا وتربويا، فالديمقراطية ليست قرارات سياسية ولا قضائية، هي ثقافة تبدأ من المدارس والبيوت، ولا تنتهي بالجامعات والإعلام، توثَّق بنصوصٍ دستورية وقانونية، تُجسَّد بممارساتٍ نزيهةٍ من السلطات كافة، تنفيذية وتشريعية وقضائية.
في ذكرى مئوية الدولة التي تأسست بوصول الأمير عبد الله إلى معان (جنوب)، عام 1920، لم يكتمل مثلث الديمقراطية، وظلت تعاني من تعثر وتراجع وتوقف. كان آخر استئناف للمسار الديمقراطي عام 1989 عندما اندلعت مواجهاتٌ بين قوات الأمن والمتظاهرين في معان، على خلفية ارتفاع أسعار المحروقات. أدرك الملك حسين أن المواطن لا يجتمع عليه حرمان اقتصادي مع حرمان سياسي، فأقال حكومة زيد الرفاعي، وأجرى انتخاباتٍ هي الأكثر نزاهةً في تاريخ الأردن، وأفرزت أفضل مجالسها النيابية.
أول اختبار للديمقراطية الأردنية كان نقابة المعلمين، إذ وضعت الحركة الإسلامية 13 شرطا على رئيس الوزراء المكلف، مضر بدران، وافق عليها جميعا، بما فيها "عدم التفريط بشبر من تراب فلسطين"، وردّ عليهم في خطاب الثقة مزاودا بعدم التفريط "بذرة تراب من أرض فلسطين". الشرط الوحيد الذي تحايل عليه تأسيس نقابة للمعلمين. كان المسؤولون يقولون، في الجلسات الخاصة، إن في البلد جيشين، القوات المسلحة والمعلمين الذين يتحكّمون بملايين الطلاب، ولن تسلم الدولة هذا الجيش للإخوان المسلمين. لجأ بدران إلى حيلةٍ لا يمكن ردّها، طلب رأي المجلس العالي لتفسير الدستور، وهو بمثابة محكمة دستورية، فأفتى بعدم تأسيس النقابة.
قال وزير التربية والتعليم، إبراهيم بدران، إن المعلمين لا يحلقون ذقونهم، شعروا بالإهانة وتحرّكوا بقوة ضده، في منتصف 2010، وتحوّل الغضب إلى حراك متواصل لتأسيس نقابة. وعندما طرح نواب ذلك في مجلس النواب، رد رئيس المجلس وقتها، فيصل الفايز، بأن المطلب غير دستوري. ثم أحيت نسائم الربيع العربي المطلب، وحولته من "غير دستوري" إلى جزء من برنامج حكومة معروف البخيت.
كان تأسيس النقابة أكبر إنجاز ديمقراطي في عهد الملك عبد الله الثاني، واعتبرها المعلمون مكسبا معنويا، يحفظ لهم مكانتهم وكرامتهم، بقدر ما هي أداة تحقق مصالحهم. وتجلى ذلك في إضراب المعلمين، والذي نجحت حكومة عمر الرزاز في التعامل معه، وقد يكون الإنجاز الوحيد لها.
تعامل الحكومة مع المعلمين مستغرَب، فوجود مشكلات معهم، ومع غيرهم من النقابات، طبيعي، لأسباب مهنية أم سياسية. غير الطبيعي حل النقابة واعتقال قياداتها، في ممارساتٍ تنتمي إلى حقبة الأحكام العرفية، والتي جسّدها تصريح ضابط شرطة عندما سئل عن الأمر القضائي، فقال "أنا الأمر"، مع أن الدستور الأردني قائم على مبدأ الفصل بين السلطات القضائية والتنفيذية. والأسوأ أن الانقسام أخذ بعدا طبقيا، فالنقابة تمثل معلمي القطاع العام الذين يدرّسون الأكثرية الفقيرة، وأحوالهم إجمالا سيئة اقتصاديا، بخلاف معلمي القطاع الخاص الذين يتمتعون بوضع اقتصادي مريح.
لم تتحرّك النقابة بوصفها مسؤولة، بالشراكة، عن بئر نفط الأردن، لم تقدّم مبادرات كيف يمكن للتعليم أن ينقذ الأردن من أزمته الاقتصادية. على العكس، دخلت، أو استدرجت، إلى مواجهات جانبية مع الملكة رانيا التي قامت بدور مميز في تطوير قطاع التعليم. وبدلا من البناء على تلك المبادرات، والتكامل معها، صنع استقطاب معها وضدها، بشكلٍ أضرّ بالتعليم والنقابة معا. وفي الأزمة الحالية، كان بإمكان النقابة أن تؤجل مطالبها في العلاوة وغيرها في ظل الظروف القاهرة، وتشغل قطاع التعليم في مبادرات لمواجهة جائحة كورونا.
ملاحظات كثيرة على النقابة، وأكثر على معلمي القطاع العام، مكانها النقاش في الفضاء العام، وليس في مراكز التوقيف. كيف يمكن، بعد مائة عام من تأسيس الدولة، أن تبني ثقافة ديمقراطية، وقادة النقابة يتعامل معهم شرطي يقول لهم "أنا الأمر"؟ المأمول أن تحافظ الدولة الأردنية على إرثها في التسامح واللين، وتحل مشكلات المعلمين بدون اعتقالات، لأن من الصعب أن تدرّس الطالب ثقافة الحوار ومعلّمه في السجن. يحتاج الأردن إلى حوار وطني حول التعليم، وقد قصّرت النقابة في قيادة حوارٍ كهذا، مع حقها في تصعيد قضاياها المطلبية، لكن الفرصة تظل قائمة. حل مشكلة المعلم يحل معظم مشكلات البلاد، الاقتصادية والسياسية.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.