لعلّ من يقرأ تاريخ السخرية في فرنسا، يصدم بالتراجع الكبير الذي عرفته هذه المهنة التي تَدين لكبار أدباء فرنسا بالشيءَ الكثير. فسيفا القضاء والرقابة اليوم مسلطان فوق رقاب الفنانين الساخرين، على غرار الفكاهي ديودوني مبالا مبالا والكاتب ألان سورال.
الكاتب الفرنسي ألان سورال، المعروف بمواقفه المعادية لإسرائيل، مُهدَّدٌ بالسجن ثلاثة أشهر مع وقف التنفيذ ومُطَالبٌ بدفع مبلغ عشرة ألاف يورو للصحافي الفرنسي فريديريك هزيزة، وهو من أصول يهودية، ويعتبر من أشد مناصري إسرائيل في فرنسا، حتى ولو اضطر إلى الكذب والتلفيق (كما حدث حين استعان بصورة طلبة إيرانيين يهاجمون شرطة بلادهم على أنها صورة لعرب ومسلمين مناصرين لحركة حماس يهاجمون الشرطة الفرنسية). والتهمة نشر الحقد، ومهاجمة الصحافي هزيزة باعتباره يهوديا. ويعود سبب المشكل إلى فيديو نشره سورال في ديسمبر/كانون الأول 2012 ومنح فيه صفة "غبي الشهر" لهزيزة، بسبب رفض هذا الأخير الحديث عن كتابه الجديد، بمبرر أنه "يبث خطاب الكراهية والعنف والعنصرية ومعاداة السامية". ولا يختلف مضمون فيديو ألان سورال عما كتبه رونو كامو، قبل سنوات، في مؤلفه "بادية فرنسا"، عن سيطرة اللوبي الصهيوني على وسائل الإعلام الفرنسية. وسورال يستخدم تعبير "احتلال"، وهو أيضا إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
والجدير بالذكر أن رونو كامو تعرض، بعدها، لحملة تشنيع، جعلته يرفع الراية البيضاء ويعتذر لليهود وللوبي الصهيوني، ويتحوّل إلى عنصري كبير تجاه العرب والمسلمين، أي ضد الحلقة الأضعف في فرنسا.
وقد أعلن ألان سورال أمام القاضي نفاد صبره من أناس يمثلون أقل من واحد في المائة من سكان فرنسا، ويحتلون تقريبا كل مراكز القرار ويبصقون في وجه الفرنسيين، مؤكداً أنه لا يستهدف جميع اليهود، وإنما "جماعة اليهود الصهاينة الراديكاليين".
ديودوني مبالا مبالا، الذي كان إلى وقت قريب "أهم فكاهي في فرنسا على الإطلاق"، في كل وسائل الإعلام، حين كان يتزعم دعاة مقاومة حزب الجبهة الوطنية المتطرف، وحين ترشح في مدينة إيفرو ضد مرشح الحزب، أصبح، الآن، لا يعرف فنّ السخرية ولا فنّ الضحك، وبالتالي لا علاقة له بالفن. كل هذا على الرغم من أن وسائل الاتصال الجماهيري، الفيسبوك ويوتيوب، قبل أن تُغلق بصفة استثنائية وقاسية، في وجهه، تشهد على الشعبية التي يتمتع بها، وعلى امتلاكه لسلاح الضحك أكثر من أي ممثل وفنان وفكاهي من جيله.
الذنب الوحيد لمبالا مبالا هو جرأته في انتقاد النفوذ الصهيوني المتصاعد وغير المشهود في البلد وفي وسائل الإعلام، وكذلك جرأته في إدانة السود الذين لا يطالبون بحقوق التعويض عن الماضي الكولونيالي الرهيب من الدولة الفرنسية ومن تجار الرقيق الذين كانوا في معظمهم يهوداً (ويخص بالذكر وزيرة العدل كريستيان توبيرا، التي ترى أن مسألة التعويضات عن الماضي الدموي غير معقولة!). أَلَيس من السخرية اللاذعة، والثاقبة، حين يُعقب ديودوني على تصريحات و"نضالات" برنار هنري ليفي، ويقول إن القمصان البيضاء النظيفة التي يضعها "الفيلسوف" على جسمه مصدرها خشب منطقة البحيرات الأفريقية الكبرى الذي تم نهبه من طرف دول استعمارية كبرى وتُجّار لا ضمير لهم، ومن بينهم والد برنار هنري؟
استطاعت السلطات التنفيذية في فرنسا أن تحرم ديودوني من وسائل الاتصال الجماهيرية بعد أن حرمته، عن طريق الضغط، من مسارح كبيرة في فرنسا. وأخيراً، تحاول أن توجه له الضربة القاضية، عن طريق طرده من مسرحه الخاص الذي يُديرُهُ في باريس، وهي الآن، تستنزفه (وهو القادر على تنفيذ أعمال كثيرة في سنة واحدة، بينما يكتفي منافسوه بعمل يعتاشون منه لسنوات) بقضايا مالية وتهرب ضريبي لا تنتهي، لن يخرج منها سالماً.
سيدخل ديودوني مبالا مبالا التاريخ بكونه أول رجل مسرح فرنسي وأول فكاهي يُحرَم من الصعود على الخشبة. وهذا ما يحاول أن يشرحه محامياه: دافيد دي ستيفانو وسانجاي ميرابو في كتابهما الجديد: "ممنوع الضحك".
وهنا سيكون مانويل فالس قد نجح (ربما هو نجاحه الوحيد في منصبه) في التعهد الذي أخذه على نفسه في إيقاف هذا الشخص المزعج، المزعج بأفكاره وطريقته في الضحك، وفي جعله "يدفع ثمن الغرامات التي تُفرض عليه، قضائيا، ولا يدفعها أبدا".
من سيُضحك فرنسا، في هذه الفترة العصيبة اقتصاديا من تاريخها، إذا رحل عنها فنانوها وفكاهيّوها ومُهرّجوها؟ خصوصا أن الشعب الفرنسي يعتبر في هذه اللحظات من بين الشعوب الفرنسية الأكثر كآبة (الدرجة ستّون، عالمياً) !