يبدو التدوين كعادة لا غنى عنها لضعاف الذاكرة إذ يكتبون سيَرهم الذاتية. يعرض الكاتب نفسه كما يراها، بحقائقها وتشوهاتها، بآمالها وتشككاتها. خلط بين الواقعي والخيالي، بين الذكريات الحقيقية والزائفة، يمنح أعمال السيرة الذاتية إنسانيتها وجمالها، ويتيح لنا أن نتلصص من دون شعور بالذنب على حياة سرية لإنسان، وأن نرى كيف نتشارك جميعاً ضعفاً بشرياً، وذاكرة معيبة.
في سيرته الجميلة، "النوافذ المفتوحة"، يصف الكاتب المصري شريف حتاتة لحظة ميلاده: "بذلت جهداً كبيراً لأعود إلى الحلقة الأولى في السلسلة الطويلة يوم أن انزلقت من رحم أمي إلى الدنيا. ثمّة شعور بالخوف وأنا أطل برأسي من جسمها، أول خطوة في طريقي المستقل، أستنشق فيها رائحة المخاض والدم".
اللافت في وصف حتاتة مولدَه، هو شعوره بالخوف، إذ لا يتناول تفاصيلَ نقلها عن آخرين، بل يحكي عن لحظة وعي استثنائية في الدقائق الأولى من طفولته. وبهذه الثقة نفسها، يبدأ الياباني يوكيو ميشيما سيرته "اعترافات قناع" بالتأكيد على أنه يذكر أموراً تراءت له في وقت مولده. يحكي عن سخرية الكبار واعتراضهم الذي يبررونه بأن مولده كان ليلاً، وذلك يتعارض مع وصفه لشعاع من الضوء شاب حمّامه الأول.
يعترف حتاتة، في سيرته، بأنه يلعب مع الذاكرة، يخلق طفولة مصنوعة ليهدَأ باله، وليحتمي باليقين. أما ميشيما، فيشير إلى احتمال أن يكون شعاع الضوء المذكور مصدره مصباح كهربائي. الأول يحتفي بالخيال كجزء من التجربة الإنسانية، ولا ينكر التواطؤ المقصود في سيرته، والثاني يفاوض خياله للوصول لحل وسط بين حكايته وبين حكاية الكبار عن يوم مولده.
أشترك مع حتاتة في ضعف ذاكرته، وأحب مرضنا المشترك، إذ ليس على ضعيف الذاكرة حرج أن يخترع حكاياته بأريحية من دون شعور بالذنب. لضعيف الذاكرة كذلك أن يستمتع بكل قراءة للكتاب نفسه كأنها القراءة الأولى. له أن يشاهد الفيلم نفسه لمرات دون ملل.
يحكي لويس بونويل في سيرته عن لعبة كان يلعبها مع أمه المصابة بالزهايمر؛ كانت تقرأ مجلة بعناية ثم تتركها، فيعيدها إليها بعد دقائق لتقرأها بالاهتمام نفسه. يقسو بونويل على ضعاف الذاكرة كثيراً في كتابه؛ يفخر حيناً بذاكرته القوية في شبابه، ويصف حيناً النسيان كسرطان ينتشر في الذاكرة، ويتحدث عن الإنسان الذي يفقد جزءاً من شخصيته مع كل فجوة جديدة في الذاكرة، ثم يكشف عن انضمامه أخيراً إلى ضعاف الذاكرة مع وصوله إلى السبعين من عمره، ويحكي عن الشعور الشنيع عندما تكون مضطراً للبحث عن مجاز مناسب لوصف شيء عادي كطاولة؛ أما الأقسى على الإطلاق، فهو ما يصفه بونويل بالذكريات الزائفة.
ليست الذكريات الزائفة ذكريات مصنوعة عمداً كغرف للّعب، وليست مساحة للتفاوض بين حكاياتنا وحكايات الآخرين. هي ذكريات تضرب في أساس معرفتنا بأنفسنا. ربما لا يعرف المرء نفسه تماماً، ولكنه يخلق يقيناً عنها يعتمد بشكل أساسي على الذاكرة، كما يعتمد على هذه الذاكرة لبناء جسر بين الذات ومحيطها، ليعرف الغير من خلال معرفته بنفسه، وعندما يتهدد هذا الجسر، تتهدد صلة المرء بواقعه.
ينهي حتاتة سيرته بحديث عن القبر الذي يتخيله لنفسه، وينهي بونويل سيرته بمشهد تخيلي لموته. تجمعهما ألفة في الحديث عن الموت، ولمحة من السخرية. أحب أن أتخيل أن هذه الألفة هي نتيجة لكتابة كلّ منهما سيرته؛ إذ كلاهما يساوي ضمنياً بين النسيان والعدم، كلاهما يعترف بالذكريات الزائفة، فيتصالح معها ضعيف الذاكرة، ويرتعب منها الفخور بذاكرته القوية سابقاً.