27 ابريل 2016
في سفح الجنون والتوحش
لا يختلف اثنان على توحش "داعش" وجنونها، وعلى هول جهلها بحسابات الحياة والموت والعلاقة بين البشر والبشر. فليس في أي قول على هذا الصعيد زيادة لمستزيد. لكننا، عندما نتأمل واقع حضورها المفزع، تلفتنا سمات تتعلق بـ"إنجازها" على صعيد القدرة والحيوية الميدانية. هنا، يلزم أن تنهض أسئلة جديدة، وتسقط افتراضاتٌ لأجوبة قديمة، أو تُضاف تعليلات أخرى إلى تلك الأجوبة: كيف انعقدت لهؤلاء إمكانية الاغتراف من الشرائح الشبابية، وأخذ ما يلائمها من كُتل شعبية، تُركت هائمة على وجوهها، تتساجل مكوّناتها، وتتفاقم النعرات والتمايزات في داخلها، وتضعف قدراتها على إعلاء شأنها، وشأن قضاياها، في غياب أية مشروعات تاريخية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؟ وكيف استطاعت مجموعة من أهل الغلو في الدين، والشطط في فهمه؛ حَقْنَ عدد معتبر من الشباب المسلم، بضغائنها وبتعليلات سلوكها؟ وكيف استطاعت هذه المجموعة التجاوز عن الفوارق الإقليمية والجهوية، فجمعت الشباب من أمصار عدة، لم يشعروا في إطارها بالتمايز، واستعدوا للموت وللحياة معاً، بينما الأجدر أن التي تحقق ذلك الدولة الوطنية، لا الجماعة المتطرفة؟
ربما تتفرع الأجوبة، عن حال الإخفاق السلطوي العربي على كل صعيد، وأن تأخذنا إلى القول إن المسألة، في جوهرها، ثقافية، بالمعنى الأنثربولوجي، يستعصي حلها، لا سيما وأن تعميم التعليم نفسه، في الدولة الوطنية، جرى من منطلقٍ فوقي يرى أن الشعوب مرنة، ويمكن توعيتها بسهولة، وبث قيم عصرية كيّسة، فيها، علماً أن مكاسب التعليم، على ضخامتها، لم تساعد على وقف التداعي على صعيد أزمة الثقافة العربية، أي لم تدفع إلى التحول القيمي الذي يلائم الحداثة، بل يُعد شرطها الأول.
لم تغترف "داعش" من مخزون الشباب، إلا لجفاف عروق قيمية، يتطلبها الضمير الجمعي للأمم، تتصل بمعنى الكرامة الإنسانية والقناعة بإطار الدولة ووجهتها التاريخية، وبالفرق بين الحديث الفارغ المخادع عن الديموقراطية والعدالة، والترسيخ الفعلي لهما في الحياة اليومية.
الغلو في الدين، لا ولم ولن، يجد له مريدين وأتباعاً، طالما ظلت الدولة الوطنية، أياً كانت، عازفةً عن تكريس احترام الإنسان الذي يؤكد عليه الإسلام في النص والمعنى. فشلت أوساط الإرشاد والفتوى التقليدية الموصولة بالحُكم، في البلدان العربية، في مهمتها المزدوجة، إشاعة روح الأخلاقية القرآنية، على الصعيدين الرسمي والشعبي. توجهت هذه إلى الناس، ولم تتوجه إلى الحاكمين المرتعدين خوفاً مما يعتبرونه شراً سياسياً، يمكن أن يتأتى من الأخذ بناصية الدين الحق، الوسطي والمعتدل وذي المضمون الإنساني والحضاري. فعندما افتقد الناس أي تقليد يوفر لهم الطمأنينة حيال مقاصد الدولة، ويستحث حماستهم لمشروعها ولدورها العام، لم يتبق للناس سوى عاداتها، والمُعطى الديني التقليدي، فنشأ الإسلام السياسي بتدرجاتٍ، أولها الاعتدال وأقصاها الغلو. وباتت الحركة الإسلامية تحمل مشروعاً مقاوماً للتلفيق الإصلاحي، أكثر من كونها حقيقة دينية في الجوهر. وهذا ما يفسر الفجوة في المعرفة بالعلم الديني، بين مرجعياته الدينية الرسمية المتوفرة على دراسة الدين وحسب، والحركة الإسلامية التي يقوم عليها حركيون، أكثر من كونهم علماء دين. وزاد الطين بِلة الجنوح في فهم معنى قوة السلطة المسلحة، وفي ممارستها. فإن كانت السياسة شراً، باعتبارها مسرحاً للمطامح والمطامع وللكراهية وللوداد وللإكراه؛ فإن ما يتعيّن على الحكم الرشيد هو الامتناع عن ممارسة العنف، إلا لحماية الأمن العام للمجتمع!
كانت الدولة الوطنية، للأسف، عُرضة لمنهج بغيض على طريقة فرّق تَسُد، بين مكونات الشعب وأتباع المذاهب. وكانت له نتائجه الكارثية، بعد أن انفجرت الثورتان الليبية والسورية. وجاءت "السلفية الجهادية" لتأخذ أتباعها، وتشكل جيشها من الكتلة المذهبية الأكبر، وتطرح مشروعها الطوباوي. في هذا الإطار، ارتدت العروبة القبلية إلى شكل من التوحش، وكأن الإسلام لم يأت للإجهاز على هذا الشكل البغيض!
ربما تتفرع الأجوبة، عن حال الإخفاق السلطوي العربي على كل صعيد، وأن تأخذنا إلى القول إن المسألة، في جوهرها، ثقافية، بالمعنى الأنثربولوجي، يستعصي حلها، لا سيما وأن تعميم التعليم نفسه، في الدولة الوطنية، جرى من منطلقٍ فوقي يرى أن الشعوب مرنة، ويمكن توعيتها بسهولة، وبث قيم عصرية كيّسة، فيها، علماً أن مكاسب التعليم، على ضخامتها، لم تساعد على وقف التداعي على صعيد أزمة الثقافة العربية، أي لم تدفع إلى التحول القيمي الذي يلائم الحداثة، بل يُعد شرطها الأول.
لم تغترف "داعش" من مخزون الشباب، إلا لجفاف عروق قيمية، يتطلبها الضمير الجمعي للأمم، تتصل بمعنى الكرامة الإنسانية والقناعة بإطار الدولة ووجهتها التاريخية، وبالفرق بين الحديث الفارغ المخادع عن الديموقراطية والعدالة، والترسيخ الفعلي لهما في الحياة اليومية.
الغلو في الدين، لا ولم ولن، يجد له مريدين وأتباعاً، طالما ظلت الدولة الوطنية، أياً كانت، عازفةً عن تكريس احترام الإنسان الذي يؤكد عليه الإسلام في النص والمعنى. فشلت أوساط الإرشاد والفتوى التقليدية الموصولة بالحُكم، في البلدان العربية، في مهمتها المزدوجة، إشاعة روح الأخلاقية القرآنية، على الصعيدين الرسمي والشعبي. توجهت هذه إلى الناس، ولم تتوجه إلى الحاكمين المرتعدين خوفاً مما يعتبرونه شراً سياسياً، يمكن أن يتأتى من الأخذ بناصية الدين الحق، الوسطي والمعتدل وذي المضمون الإنساني والحضاري. فعندما افتقد الناس أي تقليد يوفر لهم الطمأنينة حيال مقاصد الدولة، ويستحث حماستهم لمشروعها ولدورها العام، لم يتبق للناس سوى عاداتها، والمُعطى الديني التقليدي، فنشأ الإسلام السياسي بتدرجاتٍ، أولها الاعتدال وأقصاها الغلو. وباتت الحركة الإسلامية تحمل مشروعاً مقاوماً للتلفيق الإصلاحي، أكثر من كونها حقيقة دينية في الجوهر. وهذا ما يفسر الفجوة في المعرفة بالعلم الديني، بين مرجعياته الدينية الرسمية المتوفرة على دراسة الدين وحسب، والحركة الإسلامية التي يقوم عليها حركيون، أكثر من كونهم علماء دين. وزاد الطين بِلة الجنوح في فهم معنى قوة السلطة المسلحة، وفي ممارستها. فإن كانت السياسة شراً، باعتبارها مسرحاً للمطامح والمطامع وللكراهية وللوداد وللإكراه؛ فإن ما يتعيّن على الحكم الرشيد هو الامتناع عن ممارسة العنف، إلا لحماية الأمن العام للمجتمع!
كانت الدولة الوطنية، للأسف، عُرضة لمنهج بغيض على طريقة فرّق تَسُد، بين مكونات الشعب وأتباع المذاهب. وكانت له نتائجه الكارثية، بعد أن انفجرت الثورتان الليبية والسورية. وجاءت "السلفية الجهادية" لتأخذ أتباعها، وتشكل جيشها من الكتلة المذهبية الأكبر، وتطرح مشروعها الطوباوي. في هذا الإطار، ارتدت العروبة القبلية إلى شكل من التوحش، وكأن الإسلام لم يأت للإجهاز على هذا الشكل البغيض!