في رحلة شهر العسل

18 نوفمبر 2015
صفاء كسائي / إيران
+ الخط -

أحست زوجتي أنها متعبة، فعُدْنا على عجل إلى غرفة الفندق، حيث رقدت وهي ترتعد في قشعريرة، كان يعتريها قليل من الغثيان ومن الحمى. لم نرغب في استدعاء طبيب للتو حتى نرى إن كانت ستجتاز الحالة بسرعة. ولأننا كنا في رحلتنا لقضاء شهر العسل؛ وفي مثل تلك الرحلة لا يستحب إقحام الغرباء حتى وإن كان من أجل فحص طبي.

لا بد أنه دوار خفيف، مغص، أو أي شيء آخر. كنا في إشبيلية، في فندق يبقى بعيداً عن حركة المرور، فقد كان ثمة ساحة تفصله عن الشارع. وبينما كانت زوجتي تنام (يبدو أنها كانت نائمة بعدما وضعتها على الفراش وغطيتها)، قرّرت أن أخلد إلى لصمت. وأفضل طريقة لكي أتمكن من ذلك، وحتى لا أجد نفسي مستدرجاً إلى إحداث جلبة أو إلى التحدث إليها بسبب السأم، كان في أن أتلهّى بأن أطل من الشرفة وأنظر إلى الناس، إلى الإشبيليين، كيف يمشون وكيف يلبسون، كيف يتحدثون، وإن كانت لا تُسمَعُ سوى وشوشات بسبب المسافة البعيدة نسبياً عن الشارع وعن حركة المرور.

كنت أرى دون أن أنظر، مثلما يرى من يأتي إلى حفل يعرف أن الشخص الوحيد الذي يهمه لن يكون هناك لأنه بقي في البيت مع زوجه. ذلك الشخص الوحيد كان يوجد معي، خلف ظهري، وتحت عناية الزوج.

كنت أنظر إلى الخارج وأفكر في الداخل، لكني فجأة أفردت شخصاً ما، وأفردته لأنه وبخلاف الباقي الذين كانوا يمرّون في لحظة ما، ثم يختفون، فهذه الشخصية قد بقيت ثابتة في مكانها. كانت امرأة في الثلاثينيات من العمر كما تبدو من بعيد، ترتدي قميصاً أزرق بدون أكمام تقريباً، وتنورة بيضاء وحذاء بكعب عال أبيض أيضاً.

كانت تنتظر، وكانت وقفتها تشي بانتظار لا لبس فيه؛ لأنها كانت بين الفينة والأخرى تخطو خطوتين أو ثلاثاً إلى اليمين أو إلى اليسار، وفي الخطوة الأخيرة تسحب قليلاً الكعب الحاد للحذاء لإحدى قدميها أو للقدم الأخرى، حركة أناة مكتومة.

كانت تحمل على ذراعها حقيبة يد كبيرة معلقة مثل تلك التي كانت تحملها الأمهات، أمي، أثناء طفولتي، حقيبة يد كبيرة سوداء معلقة على ذراعها بشكل قديم، لم يكن يتدلّى من الكتف كما يتم حمله الآن.

كانت لديها ساقان متينتان تنغرسان بشكل قوي في الأرض. كلما عادتا للتوقف ثانية في النقطة التي تم اختيارها للانتظار بعد التحرك الأدنى لخطوتين أو ثلاث خطوات والكعب المسحوب للخطوة الأخيرة، كانتا جد متينتين حد أنهما تلغيان أو تستوعبان ذينك الكعبين، كانتا هما اللتان تنغرسان في حجر التبليط مثلما ينغرس سكين في خشب مبلل.

أحياناً، كانت تثني أحدهما لكي تنظر إلى الخلف، وتسرح التنورة كما لو كانت تخاف من أن تشوه إحدى ثنيات مؤخرتها، أو لربما كانت تسوي سروالها التحتاني المتمرد من خلال الثوب الذي كان يغطيه.

كان ظلام الليل قد بدأ يهبط، وقد جعلني الفقدان التدريجي للضوء أراها أكثر فأكثر أشد وحدة، وأشد انعزالاً، ومحكوماً عليها بالانتظار سدى. موعدها لن يأتي. كانت لا تزال في منتصف الشارع، ولم تكن تستند إلى الجدار مثلما تعَوَّدَ أن يفعل أولئك الذين ينتظرون، حتى لا يعرقلون مرور الذين لا ينتظرون ويعبرون؛ ولذلك كانت تجد مشاكل في تجنب العابرين، أحدهم قال لها شيئاً؛ فردّت عليه بحنق وهدّدته بحقيبتها الكبيرة.

فجأةً، رفعت بصرها باتجاه الطابق الثالث الذي كنت موجوداً فيه، وبدا لي أنها تركّز عينيها عليّ للوهلة الأولى. تفحصتني كما لو كانت حسيرة البصر أو تضع عدسات وسخة، كانت تغمز قليلاً بعينيها لترى بشكل أفضل، وبدا لي أنها كانت تنظر إليّ أنا بالتحديد. لكني لا أعرف أحداً في إشبيلية. وفضلاً عن ذلك، كانت هذه المرة الأولى التي أحل فيها بإشبيلية، وفي رحلتي لشهر العسل، مع زوجتي الحديثة جداً بالزواج، والتي توجد مريضة خلفي، أتمنى ألا يكون ثمة أي شيء.

سمعت همسة صادرة من السرير، لكن زوجتي لم تكن تحرك رأسها لأن الأنين كان يصدر من النوم. يتعلّم المرء كيف يميز مباشرة الصوت النائم لذاك الذي ينام معه. المرأة الآن تقدمت خطوات باتجاهي، هي تعبر الشارع متفادية السيارات دون أن تبحث عن أضواء إشارة المرور، كما لو أنها تريد أن تدنو سريعاً لتتأكد، ولكي تراني بشكل أفضل وأنا أطِلُّ من شرفتي.

ومع ذلك، كانت تمشي بصعوبة وببطء، كما لو أنها ليست متعودة على الكعوب العالية، أو أن ساقيها لم تخلقا لأجلها، أو أن حقيبتها اليدوية كانت ستفقدها توازنها، أو أنها كانت تحس بدوار. كانت تسير مثلما مشت زوجتي حينما أحست أنها متعبة عندما دخلت الغرفة. كنت قد ساعدتها على خلع ملابسها وعلى أن تدخل السرير، وغطيتها.

كانت امرأة الشارع قد عبرت للتو، هي الآن أقرب، لكنها بعد ما تزال على مسافة بعيدة، تفصلها عن الفندق تلك الساحة الواسعة الذي تبعده عن حركة المرور. كانت ما تزال ببصرها المرتفع تنظر نحوي، أو نحو ارتفاعي، ارتفاع البناية التي كنت موجوداً فيها.

حينئذ، قامت بحركة من ذراعها، حركة لم تكن لا للتحية ولا للتقرب، أقصد التقرب من غريب ما، بل للتملك والتعرف، كما لو كنت أنا الشخص الذي كانت تنتظره، وأن موعدها قد كان معي. كانت بحركة ذراعها تلك المتوجة بالدوران السريع للأصابع كما لو أنها ترغب في أن تمسك بي وتقول: "أنت تعال إلى هنا" أو "أنت ملك لي". وصرخت في الآن نفسه بشيء لم أستطع أن أتبينه، ومن خلال حركة الشفتين فهمت فقط الكلمة الأولى، والتي كانت هي: "ياه!"، وقد قيلت بتذمر مثل ما تبقى من الجملة التي ما كانت لتصلني واضحة.

واصلت تقدمها، والآن قد لمست تنورتها من الخلف بدافع أقوى، لأنه بدا لها أن الشخص الذي كان يجب أن يتحقق من ملامح وجهها قد كان ماثلاً أمامها، الشخص المنتظر يمكن الآن أن يدرك معنى سقوط تلك التنورة.

وحينها استطعتُ أن أسمع ما كانت تقوله: "أوه! لكن ماذا تفعل هناك؟" كانت الصرخة جد مسموعة الآن، وميزت المرأة جيداً. ربما كانت قد تجاوزت الثلاثين، والعينان اللتان كانتا ما تزالان تغمزان بدتا لي واضحتين، رماديتين أو بلون البرقوق، الشفتان غليظتان والأنف عريضة قليلاً، وأرنبتاها حادتان من شدة الغضب، لا بد أنها قد انتظرت لوقت طويل، أطول من الوقت الذي انصرم منذ أن عاينتها.

كانت تمشي مترنحة فتعثرت، وسقطت على أرض الساحة، فدنست تنورتها البيضاء مباشرة، وأضاعت إحدى فردتي حذائها. استوت بجهد وهي غير راغبة في أن تطأ الرصيف بقدمها الحافية، كما لو كانت تخاف أن توسخ أيضاً باطن قدمها الآن بعد أن حل موعد لقائها. يجب الآن أن تكون قدماها نظيفتين إذا ما حدّق فيهما الرجل الذي هي على موعد معه.

استطاعت أن تنتعل فردة الحذاء دون أن تسند قدمها إلى الأرض، نفضت التنورة، وصرخت: "لكن ماذا تفعل هناك؟ لماذا لم تقل لي إنك قد صعدت؟ ألا ترى أني أنتظرك منذ ساعة؟ (قالت ذلك بلهجة إشبيلية جلية، وبتلفظ ينطق التاء سيناً). وأثناء قولها ذلك، عادت من جديد إلى القيام بحركة التعلق، خبطة جامدة للذراع العارية في الهواء والدوران السريع للأصابع الذي يرافقه. كان ذلك مثلما لو كانت تقول لي: "أنت ملك لي" أو "أنا سأقتلك". وبحركتها يمكن أن يمسكني مخلب ويسحبني بعدئذ. هذه المرة صرختْ عالياً وكانت جد قريبة، حتى أني خشيت أن تستطيع إيقاظ زوجتي في سريرها.

- ماذا يحدث؟ قالت زوجتي بوهن.

استدرت، كانت مضطجعة في الفراش، بعينين خائفتين مثل عيني مريضة تستفيق وهي بعد لا ترى شيئاً، ولا تعرف أين هي، ولا لماذا تحس أنها مرتبكة. كان الضوء مطفأ.

- لا شيء عودي إلى نومك، أجبت أنا.

لكني لم أدنُ لكي أداعب خصلات شعرها، أو لأهدئها كما كنت سأفعل في أي ظرف آخر؛ لأنني لا أستطيع أن أبتعد عن الشرفة، وبالكاد أن أبعد نظري عن تلك المرأة التي كانت مقتنعة بأنها على موعد معي. الآن كانت تراني جيداً، ولا مجال للشك عندها أني كنت الشخص الذي اتفقت معه على موعد مهم، الشخص الذي جعلها تعاني من الانتظار وأهانها بغيابه الطويل.

"ألم تر أني كنت أنتظرك هناك منذ ساعة؟ لماذا لَم تقل لي شيئاً!". كانت تزعق الآن في وجهي غاضبة، وهي تقف أمام الفندق وتحت شرفتي. "هل ستسمعني! أنا سأقتلك!" صرخت. ومجدداً قامت بحركة الذراع والأصابع، حركة إمساكها بي.

- لكن ماذا يحدث؟ عادت تسأل زوجتي فزعة من سريرها.

في تلك اللحظة، تراجعت إلى الخلف، وواربتُ أبواب الشرفة. لكن قبل أن أفعل ذلك، استطعت أن أرى أنّ امرأة الشارع، بحقيبة يدها الضخمة والمتقادمة، وحذائها ذي الكعب العالي والساقين المتينتين والمشية المترنحة، كانت قد انحجبت عن مرمى بصري، لأنها كانت قد دخلت الفندق وهي مستعدة للصعود بحثاً عني لكي يتحقق موعدها.

أحسست بفراغ لما كنت أفكر في ما يجب أن أقوله لزوجتي المريضة لكي أفسر لها الاقتحام الذي يوشك أن يحدُثَ. كنا في رحلتنا لشهر العسل، وفي مثل هذه الرحلة لا يُسْتحَبُّ أن يتِمَّ أي اقتحام لأي غريب، فإن لم أكن أنا غريباً، أظن أن الشخص الذي كان يصعدُ الآن عبر السلالم هو كذلك. أحسست بفراغ وأغلقت الشرفة. وتهيأت لأفتح الباب.

* Javier Marías (مدريد، 1951) قاص وروائي وكاتب مقالات ومترجم إسباني. القصة من مجموعته "حينا كنت فانياً".


ترجمة عن الإسبانية خالد الريسوني


اقرأ أيضاً: نسور منتوفة الريش

المساهمون