في ذكرى غيبوبة شوماخر

29 ديسمبر 2015
عمل فني للرسام السوري ثائر هلا(العربي الجديد)
+ الخط -
قبل إطلالة كلّ عامٍ جديد تجتهد وسائل الإعلام العالمية المختلفة في عرض ملخّص لأهم وأبرز الأحداث والوقائع التي ميّزت العام المنقضي، وتتبارى في طرح نتائج استطلاعات الرأي حول الشخصية أو الشخصيات الأكثر حضوراً وتأثيراً محليّاً ودولياً، في السياسة والاقتصاد والثقافة والرياضة وغيرها.
لا يقتصر هذا الجرد العام فقط على النجاحات والجوائز والإنجازات والاكتشافات، بل يشمل أيضاً أبرز المحطّات المؤلمة خلال السنة، وما أكثرها، مثل مآسي الكوارث الطبيعية وبشاعة الحروب والأحداث الإرهابية، والفضائح أحياناً، والمشاهير الذين ودّعوا عالمنا بعد عمر حافل من الإبداع والتميّز.
إليكم مثالاً واحداً من هذه الأحداث المفاجئة، غير المتوقّعة بتاتاً والمفارقة في دلالاتها، وقد صادف وقوعه هذا اليوم قبل عامين، أي بالضّبط يوم 29 ديسمبر 2013، حين ملأ خبر عاجل شاشات العالم ثمّ انتشر بعد دقائق قليلة كالنّار في الهشيم عبر كلّ مواقع التواصل الاجتماعي: تعرّض الألماني ميكاييل شوماخر، بطل الفورمولا 1 الأسطوري، لإصابة خطيرة في الرأس أثناء ممارسته لهواية التزحلق على الجليد في جبال الألب الفرنسي، قبل أن يدخل في غيبوبة استمرت شهوراً طويلة استفاق بعدها على شلل تام لا يزال مستمرّاً حتّى اليوم.
كان المفاجئ في الحادث أوّلاً هو شخصية المُصاب نفسه وما ترمز إليه في الخيال الجمعي لملايين البشر من قوّة ومهارة، فهو رغم اعتزاله قبل الحادث بثلاث سنوات ظلّ في أعين الجميع بطل العالم في سباقات الفورمولا 1 سبع مرّات ومن الّذين دخلوا تاريخ هذه الرياضة من بابه الواسع بتحطيمه لعدد من الأرقام القياسية، بل يعتبره البعض إلى اليوم السائق الأسرع في العالم على مرّ العصور.

وسواء كان من تلقّى خبر سقوطه في جبال الألب من متابعي رياضة سباق السيارات أو لا، فقد خلق الخبر في الواقع صدمة كبرى ومفاجئة لكلّ من يعرف إسم ميكاييل شوماخر. ثمّ، ثانياً، كان السؤال الذي أرّق وسائل الإعلام في كلّ مكان هو: كيف يُعقل أن تتوقّف حياة بطل من حجم شوماخر بسبب حادث تافهٍ على الجليد؟ فبالنسبة لهذا النوع من الصحافة، جرياً على عادتها في الاستهتار و تشويه حياة الناس، كان سيبدو عادياً لو لقي حتفه مثلاً في حادث سير على مضمار سباق، لكن أن يُصاب بتلك الطريقة، خلال عطلة أعياد الميلاد الشتوية وبين أفراد عائلته، فهذا يستحق أن يكون حدثاً عالمياً فريداً جدّاً ومفارقاً، يغطّي على كل أحداث نهاية ذلك العام ويتصدّر عناوين كبريات الصحف العالمية لأيام.
وفعلاً، بعد ساعات قليلة من الحادث نسي الجميع بسرعة كلّ أحداث عام 2013 السياسية والاقتصادية والثقافية المُؤثّرة وأهملوها بالكامل لينشغلوا فقط بترصّد آخر الأخبار عن غيبوبة شوماخر.
تجنّد مراسلو الصحافة الدولية لتصيّد أبسط وأتفه التفاصيل التي تسرّبت من محيط مستشفى مدينة غرونوبل بفرنسا، حيث كان يرقد شوماخر في غرفة العناية الفائقة تحت إشراف طاقم من ثلاثة أطباء. وقد زاد من غموض الموقف تضارب تصريحات مديرة أعماله وأفراد عائلته حول وضعه الصحي الحرج قبل أن يلزموا الصمت نهائياً بعد أيّام قليلة.
استمرّت غيبوبة شوماخر ستّة أشهر ونصف قبل أن يستفيق لكن بدون قدرة على الكلام والحركة. تمّ نقله إلى مستشفى في لوزان لاستكمال العلاج، وفي سبتمبر 2014 جهزّت عائلته مصحة خاصة في بيته حيث يرقد إلى الآن.
من منّا يتذكّر شوماخر اليوم، بعد عامين من سقوطه في غيبوبة ملأت الدنيا وشغلت الناس عشية توديع سنة 2013؟ لا أحد.
حدث هذا دائماً وما يزال يحدث مع كثير من المشاهير، ومن بينهم كتّاب عظام وشعراء وفنانون كانوا فاعلين بحضورهم وإبداعهم الثريّ خلال فترات طويلة، وما إن يلمّ بهم طارئ صحي أو ظرف قاهر يضطرّهم للتّواري عن الأنظار حتى ينساهم الجميع وينشغلوا عنهم بغيرهم.
في وقتنا الراهن، الذي صارت فيه لوسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي سطوة وحضور يومي في حياتنا، لم يعد للبطولة معناها القديم في ساحة تعجّ بالأضواء، كما لم يعد لمفهوم البطل معنى إذا لم يعد قادراً على أن يكون حاضراً دائماً بأخباره وجديده في شاشات العالم، ولو على حساب جسده المصاب أو غيبوبته وقداسة حياته الخاصة.
وإذا لم يستطع ذلك، يحدث له ببساطة أن يُنسى تماماً في فورة ضجيج العالم الذي لا ينتهي. "يُنسى كأنّه لم يكن"، حسب تعبير شاعرنا الكبير محمود درويش.
(شاعر وكاتب مغربي)

المساهمون