في حديقة تشيخوف

26 ابريل 2020
(لاورا كارلِن، من رسوماتها لأعمال تشيخوف القصصية)
+ الخط -

- بالصدفة وقعتْ عيني على خبرٍ قديم بينما كنتُ أبحثُ عن الفعل وتّرَ. جرّ البحث بعيداً إلى الصلاة وفَرْدِها، لم أعثر على ما أردته بسهولة.
- لا أفهم؟
- كنتُ أحاول أن أصِفَ الرجل وهو يقف في منتصف حديقة.
- تعالي، من هنا سنكون قبالة الغروب تماما.
- كان مُنصتا للريح التي تشنّف أذنيه بالهمسةِ إياها، كتبتُ، لم تكن الحديقة مهندسة مشذّبة، ولكنها أليفة مطلّة على نهر، لذا يدور الهواء فيها ندياً من خدّ إلى خدّ.
- هل رأيتِ ما ارتدى بالأمس؟
- بلى، لفَّ حول ياقة قميصه حبلاً مضفوراً ذا لونين، يشبه حزام الروب. عَقَدَهُ أظنّ مرتين بأناة.
- ولكن ... بدا شيئاً عتيقاً ذابلاً! مثل رباط حذاء طويل أكثر من اللازم!
تضحك الثانية ثم تشاركها الأولى. تتنبّه الشابتان فتخفضان صوتيهما.
- جميعنا يحلم بقليلٍ من فلتان عقل يكسر جهامة الأقنعة هذه.
- هناك زوجٌ عبْرَ ذلك الخبر القديم على النتْ، لا أدري لمَ تخيلته بديناً، قصير القامة، كان قد قام بقطع أُذني امرأته التي ادعى أنها خانته!
- ما الذي تقولينه؟
- ولم يكتف بهذا فقَطَعَ لها عِرق العرقوب أيضا. ضغطتُ مُسرعةً على سهم الرجوع إلى الصفحة التي سبَقَتْها لابتعادي تماماً عن جذر الفعل الذي كنت أبحث عنه.
- نحن نقرأ الجملة في كل مكان، نسمعها على كل لسان، ولكننا حين نودّ التأكد منها تكون قد اختفت.
- يختفي ما نسمعه أم أنّ الشك يفتك به، لا يبقيه سليماً. هل صحيح ما ظننا أننا سمعناه، هل يعنينا على الأخص، آه، هذا الكمّ من الكلمات الأنيقة الذي فوّتناه أنا وأنتِ على أنفسنا!
- ولكن لِمَ قَطَعَ أُذنيها؟ أفهم أن قطع عرق العرقوب مردّه الحَوْل مثلاً دون مغادرتها باب البيت بعد اليوم، لِمَ أُذنيها؟
- لا أدري، لقد تمكّن الجرّاح على أية حال من خياطتها، وقد أكّدَ بعد اختبارٍ دقيق على سلامة سمعها.
- كما لو كان ردّا عنيفا على الزوج، هل تظنين أنه لربما فكّر بحرمانها من سماعِ صوت الذي خانته معه!
- تخيّلي صوتَ هذا الرجل الغريم، طنينه الحادّ الذي لا يُحْتَمَل في أذن الزوج!
- ولمّا لم يكن بمقدوره قَطْعَ لسانه أتى على قطع أُذُنَي زوجته!
- أنا كنتُ أودّ أن أصِفَ أُذُنَيْ ذلك الرجل الثابت في مكانه، الذي يقف في منتصف الحديقة رافعا ذقنه قليلا صوب السماء... وكأنه غافل عن الوجود من حوله.
- هل رأيتِ ربطة عنقه اليوم؟ حريرية أنيقة، بنقشة منقّطة، تعجبني.
- نعم، وناهِضة قليلا، برِفعة الأنف الذي اعتنى خالقُكِ فيه في لحظة صفاء.
- آه! حين يتجلّى كرمُ الخالق... هل لمَحَكِ؟
- لا، ولن يحصل. نظرتُه باتجاهٍ معاكس لربطة عنقه المتدلية.
- إلى السماء بالطبع؟
- لا، لا، كأنه يمشي إلى جانب الحلم.
- يدُه وهي تندسّ في جيب بنطلونه تجعل قامته تبدو أكثر طولا ووسامة!
- تلك الحركة الخفيفة التي تزيح الأمام من سترته إلى الخلف قليلاً تجعل المشهد يتطابق مع لوحة فنية مررت بها آلاف المرّات ولا أذكر عنوانها!
- أصابعه وهي تتخلّل خصلات شعره، هل رأيتِ كيف يُرجِعها باختيالٍ إلى الوراء كلّ دقيقتين، يد طبيب رشيقة ناعمة تستحق اللثم!
- صورة ارتخاء وبذخ.
- نحن ثملتان!
- مِن الهواء، أم من الماء؟
- لا يهمّ من أي وعاء...
تكتمان ضحكتيهما، كادتا أن تختنقا، تعتدلان من جديد في وقفتيهما. تعيدان، الواحدة مرآةٌ للأخرى، خصلات الشَعْر التي تطايرت في الهواء، وتتنحنحان.
- لكن وجهَهُ شاحب كالثلج!
- هذه هي المشكلة!
- ماذا؟
- اخفضي صوتكِ.
- ماذا؟
- ألا ترين، إنه على شفا هاويةٍ، ويظنّها مزحة! لا تنظري صوبه مباشرة هكذا!
- هل تظنينه...
- أخشى ذلك، تعالي، لنقف في الزاوية، اقتربي، انظري كيف يوتّر أذنيه كلما هبَّ النسيم، كما يُشَّدُ الوترُ كي ينطلق بأقصى سرعته ويضرب الهدف، كما لو كانت الريح تشدّ صيوانيهما كي تسقط الهمسة بداخلهما تماماً فلا تتمكّن من الإفلات والسقوط على العشب.
- هل يصح القول سقَطَتِ الكلمات من أذنيه، أو أذنيها؟
- أو مَرّتْ ولم تمكث ولو قليلاً حين لا يكون لها ثقل!
- كيف للهمسة أن تدخل الأُذن وهي من دون وَزْن؟
- مهلاً، ها هو يميل برأسه قليلاً جانباً، وكأنها قطرةُ دواء، يجعل لها الممرّ مائلاً لتنزل!
- إنه يوشك على السقوط، لا، انتبهي...
- ذلك الطير النحِس اللعين!
- آه... حمدتُ الله أنكِ لَمْ تخفّي إليه!
- كنتُ سأسرق تلك الزهرة التي وقعتْ من عروة القميص.


* كاتبة عراقية مقيمة في كوبنهاغن

دلالات