تظهر هيمنة الأيديولوجي على المعرفي (الأيديولوجي بمعناه السياسي الراهن حسب تقسيمات العروي في كتابه مفهوم الأيديولوجيا)، أكثر ما تظهر في علم التاريخ، أو فنّ التاريخ، حسب النقاش الذي لم يُحسم عربيّاً ولا غربيّاً في اعتبار التاريخ من العلوم أم الآداب (في هذا النقاش يمكن مراجعة الكتاب المتميز "المعرفة التاريخية في الغرب" لـ قيس ماضي فرو).
ولعلّ كتابات "المؤرّخين" الإسلاميين المحدثين هي المثال الأوضح على ذلك، حيث الدراسة التاريخية هي فرع من الصراع الأيديولوجي الراهن، والتاريخ مرآة الراهن الصافية والتي لاضمحلال المسافة البحثية بينهما تكاد لا تعكس الراهن بقدر ما تكونه.
ويمكن المحاججة هنا بأن التحيّز والمعرفة كسلطة، ملازم لأي دراسة تاريخية، ولكن هذا التعميم أشبه بتعمية، لإنكاره الفارق ما بين درجة حضور التحيّز ونوعه، فالتحيّز المعرفي بأدواته البحثية، ولو كان يتضمن انعكاساً لأيديولوجيا راهنة، فإنه مختلف عن تحيّز أيديولوجي وبأدوات ايديولوجية في موضوع معرفي.
لا تكاد تقرأ في كتابات علي الصلابي وراغب السرجاني مثلاً، وبدرجة أقلّ شوقي أبو خليل (يمكن قول الأمر نفسه عن كتابات محب الدين الخطيب وعلي الطنطاوي ونجيب الكيلاني التاريخية وإن لم يكونوا مؤرخين)، على تحليل عميق (ولا بسيط) للعوامل الاجتماعية السياسية وحتى الفكرية، في توجهات الدول الإسلامية التاريخية، وتطورها واضمحلالها، أن التاريخ هنا لم يستطع أن يكون تاريخ مجتمعات إسلامية، ولا حتى تاريخ دول إسلامية، بقدر ما كان تاريخ الإسلام نفسه عبر مرآة الشخصيات البطولية التي حملتْ نوره ومنعت اندثاره.
والمقصد من الكتابة ليس بحثيّاً عادة، ولا يتضمّن همّ الكشف عن بنية الدول والمجتمعات وسيروراتها وصراعاتها، بقدر ما هو الردّ على الشبهات والأباطيل التي يطرحها العلمانيون والمستشرقون، فالكتابة في التاريخ ليست أكثر من انعكاس للمعركة مع الأعداء في الراهن، وبأدوات المناظرة الأيديولوجية الراهنة نفسها، لا بالأدوات البحثية التي تحاول الانتصار لموقعنا المعرفي والحضاري، وائل حلّاق مثلاً في ردّه لدعاوى جوزيف شاخت وغولدتسيهر عن التشريع الإسلامي نموذج مثالي بل هو مدرسة في الردّ البحثي المنهجي، بدافع واعٍ من التحيّزات الأيديولوجية.
ولا يكون الدفاع عن "الإسلام"، الذي يمثّله تاريخ المسلمين هنا، عبر حجج منهجية أو تاريخية، وإنما عبر حجاج أدبي وعظي عادة، وبإلزامات نفسية لا تتضمن إلزاماً لغير المتحمّس لهذه المعركة، هل يمكن مثلاً أن يكون هارون الرشيد، الذي يجاهد ويقيم الليل، يسمع الأغاني؟، وهل يمكن لمعاوية بن أبي سفيان الذي استكتبه النبيّ ووصفه بالحكمة أن يسعى للسلطة؟، وهل يمكن للسلطان عبد الحميد الذي رفض ذهب اليهود وطردهم خاسئين أن يكون مستبدّاً وسبباً مهمّاً في انهيار الدولة العثمانية؟، وهل يمكن للسلطان المظفر قطز هازم التتار ومعزّ الإسلام أن يستبيح دماء منافسيه لأجل الملك؟.
جميع الصراعات هنا هي استنساخ لنقاء الإسلام الأول، ولمجتمع المدينة النبويّ، فلا هموم دنيوية ولا صراعات اجتماعية ولا عوامل عشائرية وعرقية، وإنما نحن أمام أبطال -فوق-تاريخيين همّهم الوحيد الدفاع عن الإسلام، والبحث في الاجتهاد الصحيح، حتى وإن قاتلوا بعضهم وقُتل عشرات الآلاف في حروبهم، فالجميع إنما كان همّه هو حماية الإسلام والالتزام بأحكامه لا غير، في استنساخ مستمر للتأويل الرسمي بين الإسلاميين لمرحلة الفتنة بين الصحابة كما وضعه ابن العربي المالكي في "العواصم من القواصم" بتحقيق محب الدين الخطيب، دون أن يخرج من مساره العام أي تأريخ معتمد لدى الإسلاميين عن هذه المرحلة، ولا يمكن مقارنة هذه المقاربة اللاتاريخية أبداً بالدراسة المتميزة لهشام جعيط في كتابه "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، والتي ما زالت –برأيي- أهمّ ما كُتب عن هذه المرحلة، ولا يقلّ عنها في الأهمية كتابه الآخر "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية".
ويجري تفسير صعود الدول وسقوطها بذات الجبريّة التي لا تفسّر التاريخ البشري إلا بما هو تمثيل للإرادة الإلهية التي حلّت في التاريخ، فتزدهر الدول بالشريعة، وتسقط حين تضيّع مراسمها، وإن كان هناك استثناءات فهي محن وابتلاءات للمسلمين، وهذا جدل كلاميّ ممكن الاختلاف فيه، وحتى كخطب وعظية وتعبوية يمكن ألا يُعترض عليه، ولكنه في كتابة تاريخية ليس أكثر من مهزلة.
الدكتور راغب السرجاني مثلاً، يتكلّم في موقعه "قصة الإسلام" هو اسم ذو دلالة على ما نقوله، بذات التمجيد عن عبدالله بن ياسين (الأب الروحي أو المنظّر الشرعي للدولة المرابطية) وعن المهدي بن تومرت (المقابل له في الدولة الموحّدية)، باعتبار أن كليهما عالمان مسلمان أرادا تحكيم الشريعة بإخلاص، والأخير حارب المرابطين وبدموية واسعة كمشركين مرتدّين، ولكن التعامل مع التاريخ كتاريخ للأبطال الممثّلين للإسلام، والتعلّق بالردّ على تشويه الغرب لتاريخ الإسلام ورموزه، يجعلان من المسوّغ التغاضي عن ذلك، واختصار انهيار دولة المرابطين وسيطرة الموحّدين بأنه "وكان لا بُدَّ أن تتحقَّق سُنَّة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم".
ومن المنتشر مثلاً في تأريخ الإسلاميين، في الحديث عن انهيار دولة المرابطين، وأي دولة أخرى، القول إنه قبل انهيارها انتشرت البدع والغناء والسفور، (قيل ذلك عن الأمويين وعن العباسيين وعن البويهيين والسلاجقة وعن الأندلسيين والمرابطين والموحّدين وعن كل الدول)، إضافة إلى تحكيم النساء، المفارقة هنا أن المؤرّخين الذين أشاروا إلى الدور المحوري لـ "زينب النفزاوية" زوجة يوسف بن تاشفين في تأسيس دولة المرابطين، هم ذاتهم الذين نسبوا انهيار هذه الدولة إلى تحكيم النساء في شؤون الدولة، والموحّدون أنفسهم سوّغوا هجومهم على المرابطين بانتشار سفور النساء في دولتهم (المؤرخ المغربي القدير إبراهيم بوتشيش في كتابه "المغرب والأندلس في عصر المرابطين" يرى أن هذه الدعاوى غير دقيقة)، وللأمانة فإن الإشارة إلى دور النساء السلبي والمؤثر في انهيار الدول تبنّاه مؤرخون غير محسوبين على الإسلاميين، من مثل الدكتور عبد العزيز الدوري في "دراسات في العصور العباسية المتأخرة"، وحتى شوقي ضيف في سلسلته "تاريخ الأدب العربي".
كتاب الدكتور ماجد عرسان الكيلاني المشهور "هكذا ظهر جيل صلاح الدين"، مثال آخر على المصفاة الأيديولوجية للتاريخ، ففي سعيه لإثبات أن الإمام الغزالي بحركته الإحيائية لعلوم الدين كان السبب الأهم في الإصلاح الاجتماعي والديني الذي هيّأ لظهور جيل صلاح الدين الذي حرر القدس، يغيب سؤال مهم لم يزل يشغل المؤرّخين، وهو لماذا سكت الغزالي عن الحملة الصليبية صمتاً مطلقاً، فلم يُنقل عنه أي فتوى أو كتابة أو موقف عن هذه الحملة التي عاصرها بل كان شاهداً عليها، حيث سيطر الصليبيون (أو الفرنجة كما سماهم معاصروهم) على القدس عام 492هـ، خلال سنوات التأمل والعزلة التي قضاها الغزالي في بلاد الشام (488هـ -499هـ) والتي ألّف إثرها سيرته الفكرية النفيسة الموجزة "المنقذ من الضلال"، (يمكن مراجعة هذه المواقف الصامتة لبعض العلماء حيال الحملة الصليبية في كتاب د.محمد الرحموني "الجهاد: من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة – بحث في مواقف العلماء المسلمين في القرنين الرابع والخامس").
عادةً ما يتمّ الاعتراض في أوساط الإسلاميين، على الاستشهاد بكتب المؤرخين المحسوبين كعلمانيين أو قوميين، ورغم وجاهة هذا الاعتراض من حيث ضرورة البحث عن التحيّزات الواعية واللاواعية في أي نتاج معرفي، وفي ضرورة التمحيص التاريخي قبل التسليم بالتعميمات الجاهزة، فإن المدرسة التاريخية العربية المعاصرة، قد تطورت بمعزل عن المؤرخين الإسلاميين، الذين لم يخرج أغلبهم من دائرة تاريخ الأبطال والدفاع عن العقيدة، والجهد التقني التوثيقي، دون تطوير الأدوات البحثية والتحليلية، لفهمٍ أفضل للدولة/ المجتمعات/ المعرفة الإسلامية التاريخية.
ولعلّ مشكلة الإسلاميين مع التاريخ هي فرعٌ عن إشكالية "أسلمة المعرفة"، التي عنتْ في الغالب تسييسها، أو بالأحرى تسييس منتجها النهائي وسطحها الظاهري وحسب.
ولكن هذا الجهد قامت به محاولات أكثر جدية وتعمّقاً، ولا تقلّ رصانة بحثية وتوثيقية رغم تحيّزاتها التي لا تخفيها، ولكنها تحيّزات تمارس بأدوات بحثية وحرص على الموضوعية والمنهجية التاريخية، من خلال كتابات عبد العزيز الدوري ووجيه كوثراني وهشام جعيط ومجلة الاجتهاد، وهذه الأخيرة تمثّل كنزاً –لم يستمرّ إثراؤه للأسف- في دراسات التاريخ العربي الإسلامي، التاريخ المعرفي خاصة.
أدلجة التنوير
ولكن هذا التعامل الأيديولوجي مع التاريخ السياسي، ليس مقتصراً على الإسلاميين بطبيعة الحال، وإن كان "التأريخ الإسلامي المعاصر" ظاهرة بحدّ ذاته، يمكن قول الأمر نفسه عن التأريخ المعرفي لدى الطرف "التنويري" المقابل.
مقاربة محمد عابد الجابري للتراث، والتي استنسخت بعده على نطاق واسع وأضحت هي المكرّس المعتمد في دراسات التراث "التنويرية"، اعتمدت على استيعاب هذا التراث وإشكالياته ضمن صراعات ثنائيّة (العقلانية/الخرافية/ ابن رشد/الغزالي، الفقهاء/ الفلاسفة/ المشرق/ المغرب) كثيراً ما تتأسس على تقسيمات ثلاثية لتفسير المجتمع والمعرفة (العرفان والبيان والبرهان/ القبيلة والغنيمة والعقيدة)، وهذه الثنائيات والثلاثيات في أغلبها لم تُستنبط من داخل التراث بقدر ما ألصقت به من واقع الصراعات التي يعتقد الجابري أنها صراعات اللحظة الراهنة، وهذه النظرة وإعادة السرد المؤدلجة للتراث لا ينفيها الجابري بل يؤكدها ويعتبرها أساس منهجه باعتبار أن كل قراءة مؤدلجة بالضرورة، يمكن مراجعة مقدمة كتابه "نحن والتراث" مثلاً، أسّس ذلك لصورة موهومة عن هذا التراث نتيجة الاختزال والتأويل المؤدلج الذي مارسه كي يحافظ على منطقيّة هذه الثنائيات. ثنائية الغزالي وابن رشد أشهر هذه الصراعات التي عمل عليها الجابري واستعملها، بحيث يكون ابن رشد فارس العقلانية والغزالي رائد الظلامية والخرافة، بحكم أنّ الغزالي نقد الفلسفة والفلسفة هي العقل، بينما ابن رشد دافع عن الفلسفة فدافع بذلك عن العقل ضد الخرافة، رغم أنّ أي عقلانية الآن لو اطلعت على الأنطولوجيا الأرسطية وما تطور عنها في الأفلاطونية المحدثة ثم في كتابات الفلاسفة المسلمين وقارنها بنقد الغزالي فلن ينتصر بطبيعة الحال للأفلاك العشرة التي تتحكم بالمصائر، أي أن ابن رشد فعلياً هو الذي كان حرفياً تقليدياً في اتباعه لأرسطو مقارنة بالغزالي الذي مارس النقد والتأسيس المعرفي ومحاولة الإبداع الفلسفي.
وانتصار المفكّرين -الذين يريد الجابري استعادتهم كمنطلقات للنهضة مقابلة لظلاميّة الفقهاء- للعقلانية، يصل إلى مناطق محرجة مع ابن خلدون، حيث يظهر ضعف ولا منطقيّة تبرير الجابري لتأكيد ابن خلدون على أن السحر إحدى وسائل المعرفة وبلوغ الحقيقة، بحيث يصبح حتى هذا التأكيد -الخرافي بمعايير الجابري نفسه- إحدى وسائل الانتصار للعقلانية مقابل ظلامية المتصوفة والفقهاء.
ولعلّ من أهمّ إنجازات الجابري اقتحامه لسؤال "تبيئة المصطلح" والذي مارسه بشكل مفصّل وتطبيقي وممتاز في كتابه "المثقفون في الحضارة العربية"، لكنّه حتى هنا لم يتحرّر من انحيازاته وهيمنة الثنائيات عليه، فمن المعروف أنّه تكلم هنا عن محنة ابن حنبل ومحنة ابن رشد، ولم يفتْه أن يبرّئ الاعتزال من تهمة استخدام السلطة لفرض المعتقد مظهراً أن المحنة إنّما كانت لأغراض سياسية بحتة بامتياز، لها علاقة بجماعات الرفض السياسي التي تتشكل في المجتمع العباسي، بينما هو نفسه من قال في "نحن والتراث" إن هذه المحنة كانت ثورة ثقافية مهمّة!
وكمثال آخر مشابه، ففي مقدمته لكتاب ابن باجة الأندلسي "تدبير المتوحد"، يتكلّم محقّق الكتاب "معن زيادة" عن الحرب بين أهل الفقه وبين "المفكرين الأحرار المؤمنين بالعقل"، وأن ابن باجة عاش هذا الصراع مع أهل الفقه المعادين للعقل، وأنّه كان ثوريّاً بانتقاده للغزالي على اتجاهه الصوفي في ذلك الوقت، ما ألّب عليه الفقهاء أكثر وأدى لاتهامه بالزندقة، وربما كان سبب نهاية حياته بالسم، عدا عن القول أن ابن باجة لم يكن يعترف بالإسلام لأنّه لم يسمّ النبيّ محمّداً في رسائله. هذه القراءة تمارس إعادة سرد مؤدلجة للتاريخ، على النحو الذي اشتهر به وقعّده الجابري.
ولا يخفى أنه كان هناك صراع حقيقي بين جماعة الفلاسفة ومجتمع الفقهاء، ولكن للأمر تعقيدات مختلفة حتى يُفهم في سياقه المركّب، و حتى لا يوضع في سياق صراع العلمانيين العرب مع الإسلاميين اليوم، والمباين له كثيراً، وحتى لا يصوّر كصراع العقلانية التجريبية في الغرب مقابل الكنيسة، والمباين له تماماً كذلك. فبالنسبة للمثال بالأعلى، يجب إضافة أن ابن باجة نفسه عمل كقاضٍ، أي كمشتغلٍ بالفقه ضمن ما اشتغل به لدى أمراء المرابطين، وأنه في كتاب تدبير المتوحد نفسه كان يستشهد بالقرآن الكريم، عدا أن صفته الأهم لم تكن الفلسفة ولا الوزارة بقدر ما كانت الطب، وهو كان سبب قربه من أمراء المرابطين والذي أوقعه في دسائس ومؤامرات وتنافس الأطباء، وهو كان سبب تسميمه، لا اتهامه بالزندقة.
ولم تكن الدولة لو أرادت قتله لتخاف من محاكمته وقتله، باعتباره هو نفسه متوحّداً لم يكن ذا قاعدة شعبية تخشى الدولة منها، وأمّا بالنسبة لانتقاد ابن باجة للغزالي، فهو لم ينتقد نقده للفلسفة، وإنّما اتجاهه الصوفي، ولم يكن نقداً قدحيّاً بقدر ما هو تفريق بين طريقة المتصوفة في الوصول إلى الصور الروحانية الأسمى وبلوغ العقل الفعال بالرياضات والعبادات والتأمل، وبين طريقة الفلاسفة في الوصول إلى الصور الروحانية والعقل الفعال بالنظر العقلي المنطقي، والقول في النهاية إن طريقة الفلاسفة أسمى. ويجب إضافة أن موقف ابن باجة من هذا التصوف كان أكثر تسامحاً من موقف فقهاء الأندلس المالكية منه، الفقهاء الذين أحرقوا كتب الغزالي قبل أن ينتقده ابن باجة في موقفه الثوري الشجاع ضدّهم!، عدا أن العقل الفلسفي الذي كان يدافع عنه ابن باجة أو ابن رشد لا ينتمي للعقل الحداثي، وإنّما لتقسيمات الأفلاطونية المحدثة، والتي لا تقلّ ميتافيزيقية ولاعقلانية -بمعاييرنا اليوم- عن غيبية الطرق الصوفية.
لا بدّ من عمليّة إعادة السرد والتأويل اللازمة لكلّ تراث، وهذه ضرورة أمام تراثنا الفلسفي والكلامي والأصولي وحتى الأدبي والإخباري، وهذا ما تمارسه كلّ أمة تجاه تراثها حتى يمكن لها الاستمرار والبناء في المجال التداولي نفسه دون أن يكون منفصماً عن الزمن المعرفي المعاصر الذي يعيش فيه، ولكن ما وقع فيه التنويريون العرب -والإسلاميون لم يقعوا فيه لأنهم لم يحاولوا أصلاً- هو القراءة المؤدلجة بفجاجة للتاريخ المعرفي لكي يكون نسخةً عن صراعاتهم المعاصرة، فلم يقدّموا إنتاجاً معرفيّاً حداثيّاً، ولم يقدّموا دراسة حقيقية عن التراث، أي أنّهم في ما أرادوه من قراءة عقلانية للتراث، قدّموا قراءة لا عقلانية ولا تراثية في الآن نفسه.
ختام
كختام لهذا العرض الموجز لأمثلة في الأدلجة الفجّة للتاريخ، والتي تعتمد تزييفه (أو تراه كذلك فعلاً) لصالح استخدامه في صراعات راهنة ليكون صورة عنها وأداةً لها، فإن هذا العرض لا يحاول ولا يزعم أن يكون مقالاً بحثيّاً أو دراسة استقصائية منهجية للموضوع، ويعترف بالانتقائية المختزلة المخلّة فيه.
حين تكون صورة التاريخ فرعاً عن صورتنا في الراهن، فإن الراهن لن يلبث أن يعلّق شرعيّته بمشابهة صورة التاريخ التي اخترعها.
والرؤية الأحادية الحلولية فوق-التاريخية للتاريخ، مرتبطة برؤية أحادية شمولية تحاول فرض نفسها على الدولة والمجتمع والإنسان، وهذا حاضر في تاريخ الحركات الشمولية ووعيها المقدّس بذاتها التاريخية كسيرورة ميتا-تاريخية للأبطال الخارقين، من النازية وحتى داعش.
وتصحيح الرؤية إلى التاريخ، كواقع بشريّ مركّب وحافل بالعوامل والاحتمالات والتناقضات، وإلى التأريخ كمنهجية وأفق بحثي ومعرفي قبل أن يكون مانفيستو، ليس لمحض الردّ على الأدلجة المنتشرة في القراءات التاريخية، حتى لا نقع أيضاً في فخ الاقتصار على "عمليّة وراهنية" أي طرح معرفي لتبرير فائدته، وإنما لإعادة الاحترام للدراسة التاريخية كغاية معرفية بحدّ ذاتها، مستقلّة عن استخداماتها أو فائدتها الحركية والأيديولوجية الآن.
(سورية)