"صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويردّ للشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة كأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبّت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس، أنظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأسائل نفسي عن سرّ اكتئابها، فلا أهتدي لشيء. تناولت ديوان "موسيه" (لوي شارل ألفرد دي موسيه باتاي - شاعر رومانسي فرنسي من القرن التاسع عشر)، وحاولت القراءة، فلم أنجح، فألقيت به على الخوان وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير كأني فريسة بين مخالب الدهر. مكثت حيناً أفكّر، ثم نهضت واقفاً، وتناولت عصاي وغادرت منزلي، وسرت وأنا لا أعلم إلى أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد وهناك وقفت مفكراً ثم اهتديت للسفر ترويحاً للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة لأقضي فيها نهاري بأكمله".
بهذه العبارات تبدأ قصة "في القطار" للكاتب المصري محمّد تيمور. وهو شقيق أكبر لمحمود، الابن الأكثر شهرة لعائلة تيمور. وقد عاش محمّد بين السنوات 1892 ـ 1921، سافر خلالها إلى باريس لدراسة القانون، غير أنه عاد منها إلى القاهرة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وانصرف منذ ذلك الحين إلى كتابة القصص والمسرحيات متأثّراً فيها بالمذهب الواقعي.
تعتبر القصة السالفة ـ وفقاً لكثير من الدارسين والنُقّـاد - بمنزلة أوّل قصّة قصيرة عربية حقيقية، أي أوّل قصة تتحقّق فيها ملامح هذا الجنس الأدبي، الذي كان في ذلك الوقت آخذاً بالازدهار في الغرب على أيدي إدغار آلان بو وغي دو موباسان وإميل زولا وإيفان تورغينيف وأنطون تشيخوف وتوماس هاردي وروبرت لويس ستيفنسون.
ومعروف أن ثمة خلافاً حادّاً بين مؤرخي الحركة الأدبية العربية الحديثة حول أوّل قصة قصيرة فنية ظهرت في أدبنا العربي قبل أن تبلغ درجة عالية من النُضج، ولا سيما على أيدي يوسف إدريس في مصر وزكريا تامر في سورية.
فالبعض يرى أن قصّة تيمور هذه التي نشرت سنة 1917 في جريدة "السفور" هي أوّل قصة تحمل المعنى الفني. ويذهب بعض آخر إلى أن قصّة "سنتها الجديدة" التي نشرت سنة 1914 للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة (من مجموعته "كان يا ما كان")، هي أوّل قصة فنية في الأدب العربي، ويشير بعض ثالث إلى أنها قصّة "العاقر" لميخائيل نعيمة أيضاً، التي نشرها سنة 1915 (من المجموعة نفسها)، ويقول بعض رابع إن نعيمة أوّل من كتب القصّة القصيرة، لكن محمّد تيمور هو رائد فنّ القصّة القصيرة في الأدب العربي الحديث. ويظهر هذا واضحاً من خلال مجموعته القصصية "ما تراه العيون"، حيث برع في رسم شخصياتها وتصوير أحداثها، كما أولى اهتماماً كبيراً ببقية العناصر الفنية كـ"المقدمة والعقدة والنهاية والأسلوب والحوار والتشويق"، بدءاً من قصته "في القطار".
المهم أن قصّة تيمور هذه ارتبطت بالقطار، وهو موضوع يستحق أن نتوقّف عنده ولو إشارياً.
فقد ارتبط القطار منذ اختراعه بكثير من نصوص الأدب العالمي، والأصح القول إن كثيراً من نصوص الأدب العالمي ارتبطت به، ليس ابتداءً برائعة تولستوي "آنـا كارنينا".
وليس من العسير على قارئ "أدب القطارات" ـ إذا ما جاز سكّ مثل هذا المصطلح أو النوع الأدبي ـ ملاحظة أنه في العُمق لم يحفّز القطار خيال المبدع المسافر فيه فحسب، بل أيضاً شكّل حيّزاً اجتماعياً، حفّز الحوار والجدل بين بني البشر حول قضايا كبرى وصغرى.
وربما تصلح رواية "ويطول اليوم أكثر من قرن"، للكاتب القرغيزي جنكيز إيتماتوف ببطلها عامل السكة الحديد، للنمذجة على ذلك.
وفي إطار تحفيز اللقاء بين الشرق والغرب، يشير جاك لانغ في الحوار المنشور معه في هذا العدد، إلى سلسلة من المعارض الفنية التي أقامها "معهد العالم العربي" في باريس في ظلّ رئاسته له، على غرار معرض "قطار الشرق السريع" الذي كان يربط العواصم الأوروبية بإسطنبول في زمان مضى. وسبق للانغ نفسه أن لفت إلى أن هذا المعرض يتيح إمكان الغوص على تاريخ مضطرب، شهد على قيام العالم المعاصر في إثر انهيار السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية وتشكّل العالم العربي والاستعمار الكولونيالي وانتهائه.
لكن بالعودة إلى محمّد تيمور، نصادف في قصته "في القطار" أنه كان منهمكاً بهمّين جمالي وفلسفي.
ولمن يرغب بالعودة إليها نقول إن من غير الممكن قراءة القصّة وعدم التوقف عند أفكار اجتماعية فلسفية قام بتشفيرها في البناء الفني للقصّة.
بهذه العبارات تبدأ قصة "في القطار" للكاتب المصري محمّد تيمور. وهو شقيق أكبر لمحمود، الابن الأكثر شهرة لعائلة تيمور. وقد عاش محمّد بين السنوات 1892 ـ 1921، سافر خلالها إلى باريس لدراسة القانون، غير أنه عاد منها إلى القاهرة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، وانصرف منذ ذلك الحين إلى كتابة القصص والمسرحيات متأثّراً فيها بالمذهب الواقعي.
تعتبر القصة السالفة ـ وفقاً لكثير من الدارسين والنُقّـاد - بمنزلة أوّل قصّة قصيرة عربية حقيقية، أي أوّل قصة تتحقّق فيها ملامح هذا الجنس الأدبي، الذي كان في ذلك الوقت آخذاً بالازدهار في الغرب على أيدي إدغار آلان بو وغي دو موباسان وإميل زولا وإيفان تورغينيف وأنطون تشيخوف وتوماس هاردي وروبرت لويس ستيفنسون.
ومعروف أن ثمة خلافاً حادّاً بين مؤرخي الحركة الأدبية العربية الحديثة حول أوّل قصة قصيرة فنية ظهرت في أدبنا العربي قبل أن تبلغ درجة عالية من النُضج، ولا سيما على أيدي يوسف إدريس في مصر وزكريا تامر في سورية.
فالبعض يرى أن قصّة تيمور هذه التي نشرت سنة 1917 في جريدة "السفور" هي أوّل قصة تحمل المعنى الفني. ويذهب بعض آخر إلى أن قصّة "سنتها الجديدة" التي نشرت سنة 1914 للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة (من مجموعته "كان يا ما كان")، هي أوّل قصة فنية في الأدب العربي، ويشير بعض ثالث إلى أنها قصّة "العاقر" لميخائيل نعيمة أيضاً، التي نشرها سنة 1915 (من المجموعة نفسها)، ويقول بعض رابع إن نعيمة أوّل من كتب القصّة القصيرة، لكن محمّد تيمور هو رائد فنّ القصّة القصيرة في الأدب العربي الحديث. ويظهر هذا واضحاً من خلال مجموعته القصصية "ما تراه العيون"، حيث برع في رسم شخصياتها وتصوير أحداثها، كما أولى اهتماماً كبيراً ببقية العناصر الفنية كـ"المقدمة والعقدة والنهاية والأسلوب والحوار والتشويق"، بدءاً من قصته "في القطار".
المهم أن قصّة تيمور هذه ارتبطت بالقطار، وهو موضوع يستحق أن نتوقّف عنده ولو إشارياً.
فقد ارتبط القطار منذ اختراعه بكثير من نصوص الأدب العالمي، والأصح القول إن كثيراً من نصوص الأدب العالمي ارتبطت به، ليس ابتداءً برائعة تولستوي "آنـا كارنينا".
وليس من العسير على قارئ "أدب القطارات" ـ إذا ما جاز سكّ مثل هذا المصطلح أو النوع الأدبي ـ ملاحظة أنه في العُمق لم يحفّز القطار خيال المبدع المسافر فيه فحسب، بل أيضاً شكّل حيّزاً اجتماعياً، حفّز الحوار والجدل بين بني البشر حول قضايا كبرى وصغرى.
وربما تصلح رواية "ويطول اليوم أكثر من قرن"، للكاتب القرغيزي جنكيز إيتماتوف ببطلها عامل السكة الحديد، للنمذجة على ذلك.
وفي إطار تحفيز اللقاء بين الشرق والغرب، يشير جاك لانغ في الحوار المنشور معه في هذا العدد، إلى سلسلة من المعارض الفنية التي أقامها "معهد العالم العربي" في باريس في ظلّ رئاسته له، على غرار معرض "قطار الشرق السريع" الذي كان يربط العواصم الأوروبية بإسطنبول في زمان مضى. وسبق للانغ نفسه أن لفت إلى أن هذا المعرض يتيح إمكان الغوص على تاريخ مضطرب، شهد على قيام العالم المعاصر في إثر انهيار السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية وتشكّل العالم العربي والاستعمار الكولونيالي وانتهائه.
لكن بالعودة إلى محمّد تيمور، نصادف في قصته "في القطار" أنه كان منهمكاً بهمّين جمالي وفلسفي.
ولمن يرغب بالعودة إليها نقول إن من غير الممكن قراءة القصّة وعدم التوقف عند أفكار اجتماعية فلسفية قام بتشفيرها في البناء الفني للقصّة.