11 نوفمبر 2024
في العيد
تتردّد في الفضاء، يوم العيد، تكبيراتٌ بإيقاع خفيض، سرعان ما تعلو، فتحل في الأرواح سكينة. صغار أشقياء مندفعون يتصايحون، في بهجة عارمة، بالعطلة الطويلة الحافلة بالمآدب العامرة، وأصناف الحلوى التي لا يصدقون أن الإفراط فيها سيطيح أسنانهم، فرحين بلا تحفظ بالعيديات السخية. أصوات ألعابهم النارية المصرح بها رسمياً تنطلق، بين حين وآخر، على غير استحياء، ناسفة أوهامهم بإمكانية الادخار من ثرواتهم المبدّدة أولاً بأول مع المفرقعات الصاخبة، جلباً لمزيد من الفرح. تأخذ المرأة نفساً عميقاً، تتحسس الجهة اليمنى من فكها الأسفل بشيء من الرعب، تقول الطبيبة إن الأمر لا يتعدى شداً عضلياً، بسبب (كثرة غلبتك) ومتابعتك تفاصيل هامشية لا جدوى من تأملها طويلاً، غير أنها لا تواظب على العلاج. وبالاستخفاف نفسه المتوقع منها، تنتظر أن تحدث معجزة ما، وتعيد فكها سالماً معافى.
يأتي العيد حزيناً ثقيلاً على كثيرين، حين تورد الأنباء مأساة حجيج مكة، مئات الأرواح تزهق دفعة واحدة، سفهاء يتندّرون حول الحدث المؤلم، ينشرون تعليقات بذيئة، عديمة الحساسية، ويتبادلون نكات سمجةً بشأنه. تتساءل عن مقدار البلادة في تلك الأرواح البلهاء التي تجد في الموت مناسبةً للضحك الصفيق والتنظير الغبي. ترتدي ثياباً قاتمة شديدة الرصانة، تضع نظارتها السوداء، تنطلق صوب بيت صديقة قديمة، أفادت صفحتها على "فيسبوك" بأنها فقدت للتو شريك عمرها. مات بين يديها عند بوابة الطوارئ، لحظة مغادرتهم المستشفى العريق، بعدما أكد الأطباء، إثر إجراء كل الفحوصات اللازمة، أن المريض الذي لجأ إليهم، بعد منتصف الليل، بصحة جيدة، وأن الأمر لا يتعدى هبوطاً طفيفاً في الضغط.
تحتضنها بقوة، تذرف معها دموعا سخية على رجل طيب، كثير الأحبة، رحل صبيحة العيد. ترتدي ليلاً ثوباً فلاحياً صاخب الألوان، تضحك من قلبها، في حفل زفاف أنيق غير تقليدي، يجري في حديقة عامة وسط دهشة المارة. تقبل العروسين المتخففين من سطوة السائد في طقوسٍ بالغة البساطة. تنضم بحماسةٍ إلى حلقة الدبكة، حيث شبان وصبايا يدقّون الأرض بأقدامهم الفتية فرحاً بقصة حب جميلة، حركت شيئاً من ركود المدينة.
ترتاد، صبيحة اليوم الثاني للعيد، عزاء آخر لأقارب فقدوا إثر تهور سائق أرعن، عائلة شابة بكاملها، على طريق العقبة. كانوا في طريقهم إلى قضاء إجازة العيد. تقترب بوجل من أم الشاب الذي غادر الدنيا، مع زوجته الحامل وطفلتهما الصغيرة، في لحظة من العبث الخالص. ترتجف روحها ذعراً أمام مهابة اللحظة، تعانقها مذهولة: كيف تسنّى لهذه المرأة الصامدة الصابرة أن تقف ثابتةً على قدميها، بحزنها القوقازي الصامت النبيل. تعلق سيدة علمانية: إنها ما زالت تحت الصدمة، دماغها أعطى إشارة الإنكار، تحتاج إلى وقت لتستوعب ما جرى. تردّ أخرى: بل إنها نعمة التدين والإيمان، لأنها تلقي في الروح الثكلى الصبر، وهو كل ما تحتاج إليه الآن.
تمضي في المساء إلى جبل اللويبدة، حيث حفل شرفات موسيقية، تهتزّ حواسها طرباً لصوت عدي النبر، الفتى الأردني المدهش يشق بحنجرته الأوبرالية الفضاء، مواجهاً بالجمال وحده، من على شرفة عمانية، القمر العملاق الدامي المثير للريبة، قبيل كسوفه بقليل، فتحب الحياة أكثر في هذه المدينة الملتبسة الحافلة بالأضداد كلها.
في اليوم الثالث، تمضي إلى عزاء ثالث، تحتضن الصبية الحامل في شهرها التاسع التي فقدت والدها، بعد مرضٍ ليس طويل الأمد. توجعها نظرة الحزن في عيني الصبية التي تجرّعت مرارة اليتم منذ برهة وجيزة، تتذكّر والدها الراحل منذ سنين طويلة. تنظر نحو الصبية بإشفاق كبير، وهي تدرك فداحة الخدش الذي يمزّق روحها إثر الفراق. يشتد وجع فكها الأسفل على نحو مباغت، تعد نفسها باستئناف العلاج، تغص بالدمع، وسرعان ما تغادر بيت العزاء، كي تنضم إلى حفل غداء عائلي حاشد، احتفالاً بالعيد الكبير.
يأتي العيد حزيناً ثقيلاً على كثيرين، حين تورد الأنباء مأساة حجيج مكة، مئات الأرواح تزهق دفعة واحدة، سفهاء يتندّرون حول الحدث المؤلم، ينشرون تعليقات بذيئة، عديمة الحساسية، ويتبادلون نكات سمجةً بشأنه. تتساءل عن مقدار البلادة في تلك الأرواح البلهاء التي تجد في الموت مناسبةً للضحك الصفيق والتنظير الغبي. ترتدي ثياباً قاتمة شديدة الرصانة، تضع نظارتها السوداء، تنطلق صوب بيت صديقة قديمة، أفادت صفحتها على "فيسبوك" بأنها فقدت للتو شريك عمرها. مات بين يديها عند بوابة الطوارئ، لحظة مغادرتهم المستشفى العريق، بعدما أكد الأطباء، إثر إجراء كل الفحوصات اللازمة، أن المريض الذي لجأ إليهم، بعد منتصف الليل، بصحة جيدة، وأن الأمر لا يتعدى هبوطاً طفيفاً في الضغط.
تحتضنها بقوة، تذرف معها دموعا سخية على رجل طيب، كثير الأحبة، رحل صبيحة العيد. ترتدي ليلاً ثوباً فلاحياً صاخب الألوان، تضحك من قلبها، في حفل زفاف أنيق غير تقليدي، يجري في حديقة عامة وسط دهشة المارة. تقبل العروسين المتخففين من سطوة السائد في طقوسٍ بالغة البساطة. تنضم بحماسةٍ إلى حلقة الدبكة، حيث شبان وصبايا يدقّون الأرض بأقدامهم الفتية فرحاً بقصة حب جميلة، حركت شيئاً من ركود المدينة.
ترتاد، صبيحة اليوم الثاني للعيد، عزاء آخر لأقارب فقدوا إثر تهور سائق أرعن، عائلة شابة بكاملها، على طريق العقبة. كانوا في طريقهم إلى قضاء إجازة العيد. تقترب بوجل من أم الشاب الذي غادر الدنيا، مع زوجته الحامل وطفلتهما الصغيرة، في لحظة من العبث الخالص. ترتجف روحها ذعراً أمام مهابة اللحظة، تعانقها مذهولة: كيف تسنّى لهذه المرأة الصامدة الصابرة أن تقف ثابتةً على قدميها، بحزنها القوقازي الصامت النبيل. تعلق سيدة علمانية: إنها ما زالت تحت الصدمة، دماغها أعطى إشارة الإنكار، تحتاج إلى وقت لتستوعب ما جرى. تردّ أخرى: بل إنها نعمة التدين والإيمان، لأنها تلقي في الروح الثكلى الصبر، وهو كل ما تحتاج إليه الآن.
تمضي في المساء إلى جبل اللويبدة، حيث حفل شرفات موسيقية، تهتزّ حواسها طرباً لصوت عدي النبر، الفتى الأردني المدهش يشق بحنجرته الأوبرالية الفضاء، مواجهاً بالجمال وحده، من على شرفة عمانية، القمر العملاق الدامي المثير للريبة، قبيل كسوفه بقليل، فتحب الحياة أكثر في هذه المدينة الملتبسة الحافلة بالأضداد كلها.
في اليوم الثالث، تمضي إلى عزاء ثالث، تحتضن الصبية الحامل في شهرها التاسع التي فقدت والدها، بعد مرضٍ ليس طويل الأمد. توجعها نظرة الحزن في عيني الصبية التي تجرّعت مرارة اليتم منذ برهة وجيزة، تتذكّر والدها الراحل منذ سنين طويلة. تنظر نحو الصبية بإشفاق كبير، وهي تدرك فداحة الخدش الذي يمزّق روحها إثر الفراق. يشتد وجع فكها الأسفل على نحو مباغت، تعد نفسها باستئناف العلاج، تغص بالدمع، وسرعان ما تغادر بيت العزاء، كي تنضم إلى حفل غداء عائلي حاشد، احتفالاً بالعيد الكبير.